العبقريان روسيني وفيردي يتنافسان على جماليات شكسبير في «مهرجان البستان»

شهر ونصف في لبنان بصحبة «عطيل» وهاملت» مع «حلم ليلة صيف»

من عروض هذا العام
من عروض هذا العام
TT

العبقريان روسيني وفيردي يتنافسان على جماليات شكسبير في «مهرجان البستان»

من عروض هذا العام
من عروض هذا العام

يواصل «مهرجان البستان» في لبنان، وهو الأكبر والأهم خلال فصل الشتاء، احتفاليته بمرور 400 سنة على وفاة الكبير ويليام شكسبير، بتقديم أعمال كلاسيكية موسيقية ذات صلة بأعماله. ومساء الاثنين، في «فندق البستان» في بلدة «بيت مري» الجبلية البديعة، كان دور مسرحية «عطيل» بكل ما تنطوي عليه من قسوة وحب وغيرة وانتقام وغفران. بترجمة موسيقية من الكاتبين العبقريين روسيني وفردي، استمتع الحشد بما يشبه المنافسة بين أسلوبين لرمزين عالميين، حاولا ولوج روح الأعمال الشكسبيرية، كل على طريقته. سبعون عاما تفصل الموسيقيين الإيطاليين، وتجمعهما العبقرية، وفي بيت مري كانا في أمسية واحدة لتكريم شكسبير.
بدأ الحفل بموسيقى جواكينو روسيني (1792) ليستمع الجمهور إلى هذا العمل الذي قدم للمرة الأولى عام 1816 في مدينة نابولي الإيطالية، حيث كتبه للمسرح فرانشيسكو بريو دي سالسا، الذي اختار أن تدور الحكاية في البندقية بدلا من قبرص كما في النص الأصلي، مع تعديلات أخرى على الأحداث.
أما في الجزء الثاني من الحفل فكان شكسبير حاضرا عبر موسيقى جوسيبي فيردي، وثمانية من الفنانين الأوبراليين، الآتين من بلدان مختلفة.
وبذلك استمتع الجمهور بما يشبه المنافسة بين قطبين عالميين موسيقيين في سهرة واحدة، تسابقا دون أن يعملا على تجسيد مسرحية «عطيل» العابقة بالمشاعر الإنسانية الصاخبة، ليتركا للجمهور الحكم النهائي. وجاء الغناء برفقة أوركسترا «مهرجان البستان» بقيادة المايسترو الإيطالي جيانلوكا مارشيانو.
وكانت الدورة الثالثة والعشرين لـ«مهرجان البستان» قد انطلقت في السادس عشر من الشهر الحالي تحت عنوان «حلم ليلة شتاء»، تيمنا بالمسرحية الشكسبيرية «حلم ليلة صيف» التي يرجح أنه كتبها ما بين عامي 1590 و1597. وجاء الافتتاح حاشدا وبحضور رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام وعقيلته، وجمع كبير من الشخصيات. وقدمت، في تلك الأمسية الافتتاحية الكبيرة، أوركسترا مهرجان البستان بقيادة المدير الفني في المهرجان الإيطالي جيانلوكا مارسيانو برنامجا مقسما إلى جزأين، أولهما يرتكز على مقطع من المسرحية الشكسبيرية (ريتشارد الثالث) وقد ألفها سيمفونيا الموسيقي التشيكي بيدريخ سميتانا ما بين عامي 1857 و1858. أما القسم الثاني من البرنامج فتمحور حول مقطع من المسرحية الشكسبيرية «حلم ليلة صيف» للموسيقي الألماني فيليكس مندلسون، التي يقال إنه ألفها خلال مرحلتين من حياته الأولى عام 1826 و1842. وشاركت في الجزء الثاني من الحفلة الافتتاحية جوقة الإناث التابعة للجامعة الأنطونية في لبنان والسوبرانو الإنجليزية فيونا هيمنز والميزو سوبرانو الأسترالية صوفي جولدريك.
ولم تقتصر مشاركة هيمنز وجولدريك على الغناء، بل تضمنت إطلالتيهما أيضا الإلقاء الشعري لبعض مقتطفات محورية في مسرحية «حلم ليلة صيف» الخالدة.
وتعتبر مديرة المهرجان، وهي عاشقة الموسيقى الكلاسيكية، ميرنا البستاني، أن «اختيار ويليام شكسبير كعنوان عريض لمهرجان هذه السنة يعود إلى قدرة الكاتب والمؤلف المسرحي على التعبير عن أحاسيس الإنسان والاضطرابات الداخلية التي تقلقه بأسلوب بسيط وفي الوقت عينه فصيح».
وكانت البستاني قد أسست المهرجان عام 1994 منطلقة من رغبة حقيقية في إعادة إحياء الثقافة في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت زهاء 15 عاما وانتهت عام 1990.
ورغم الأحداث التي عصفت بلبنان طوال هذه الفترة، بقيت البستاني متمسكة بحلمها، حريصة على تطوير مهرجانها، الذي تنسجه سنويا بشغف غريب، وبات للمهرجان رواده، الذين ينتظرونه سنة بعد أخرى.
ويحل شكسبير، هذه السنة، ضيفا على «مهرجان البستان» طوال شهر ونيف، حيث تقدم ما يقارب 23 حفلة، ما بين الموسيقية والغنائية والمسرحية، ويبقى شكسبير طاغيا على كل ما عداه، حيث سيقدم في 29 فبراير (شباط) عرضا لمسرح «نو» الياباني مستوحى من مسرحية «الملك لير»، مخرجه أحد صناع الدراما المعروفين في اليابان وهو ناوهيكو اوميواكا.
عمل آخر لشكسبير سيقدم يوم 14 مارس (آذار)، ولكن بالعربية هذه المرة، من إخراج جلال خوري، ومن تمثيل القدير رفعت طربيه وميراي معلوف.
أمّا الختام فسيكون يوم الأحد 20 من مارس، بمشاركة السوبرانو آنا كاسيان وأوركسترا أرمينيا للشباب، حيث ستقدم «هاملت فانتزي» و«روميو وجولييت» لتشايكوفسكي وافتتاحية أوبرا «كابلي ومونتيغو» لبلليني، و«روميو وجولييت» لغونو.
جدير بالذكر أن ميرنا البستاني تشرف على مهرجانها بعناية، وتقدم الحفلات بكثير من الحميمية والدفء، ويمكن لمن يريد من الجمهور أن يتناول وجبة العشاء مع الفنانين بعد انتهاء الحفل، بحجز مسبق. كما أن المنظمين يحرصون من خلال الطريقة التي تقدم بها حفلاتهم على بث الثقافة الموسيقية، بين الجمهور العريض، والوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وهو ما دفع إلى تنظيم بعض الحفلات في بيروت خارج «فندق البستان»، في السنوات الأخيرة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».