إصرار إيران على مشروعها التوسعي في العالم العربي دفعها للعزف منذ أكثر من ثلاثين عاما على أوتار النسيج الاجتماعي والمذهبية لدول وشعوب المنطقة العربية.. فخيولها في المنطقة تركض في ساحات جمهوريات أرهقتها السياسات الدولية التي أثبتت فشلها، بعد أن تركت المضمار مريحا أمام رجال طهران، فالأدوات إيرانية والرجال من داخل المجتمعات، وليس أدل على ذلك من كسر السعودية سكاكين طهران وقم التي مثلها نمر النمر، الذي أربك إعدامه شرعا إيران بوصفه أحد وكلائها الساعي إلى تحقيق حلم ولاية الفقيه على أرض السعودية، وهو ما تبدد.
حاولت إيران التغلغل في النسيج السعودي، لكنها اصطدمت بالقوة الحقيقية للسعودية، فمن «حزب الله - الحجاز» الذي بقي اسما في الأرشيف التاريخي في خانة سوداء، حتى أفراد في العوامية اليوم يتساقطون بقوة الحضور المجتمعي والتماسك الوطني، مع قوة أمنية وسعي من الدولة السعودية إلى وضع كل مهددات الأمن الوطني في خانة الخيانة العظمى.
وإن كان لرجال الأمن الكلمة الأولى في تحقيق الإنجازات حتى دحر تنظيمات إرهابية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، من البلاد، فإن وزارة الداخلية بدورها تعترف وتشيد دوما بتعاون المواطنين والمقيمين في الإبلاغ عن بعض تلك الجرائم، ناهلين من أصول المعيشة في المجتمع السعودي المعروف بتماسكه، قوة حقيقية، يساندها المناخ العام المستقر والأمن الذي تُعرف به السعودية.
الوعي السعودي أصبح أساس بناء وديمومة للعلاقات المجتمعية رغم الاختلافات المذهبية، وتعج الأوساط بالقوة الدائمة التي تحفظ مسار الوطن، والمشاهد المتكررة بعد الحوادث الإرهابية الانتحارية تأتي عكس الصورة القاتمة التي يحاول المتطرفون نشرها لهزّ الثقة في أوساط المجتمع، وتتجلى الصورة لتؤكد، وإن اختلفت مذاهب الشيعة السعوديين شرقا وجنوبا، على أن الوطن ذو تشكيل مقدس، لا يمكن للتنظيمات الإرهابية استغلاله وإيجاد مقر لها رغم محاولتهم تعزيز الحروب المذهبية، وأثبتت أحداث عدة عمق الولاء الكبير من السعوديين لوطنهم وإن اختلفت مذاهبهم.
البحرين كانت هدفا هي الأخرى، لولا الوقفة الخليجية التي هبت لمناهضة كل المحاولات والتهديدات الإيرانية، منذ اندلاع الإرهاب بها عام 2011 على خلفية الثورات العربية. كان هدف الإيرانيين وبقيادة من الحرس الثوري الإيراني تجنيد أفراد وخلايا داخل البحرين، وتجلى في الأشهر الأخيرة كشف أمني عن تلك التنظيمات المتطرفة التي نزعت هويتها البحرينية وسمحت لعمائم طهران بالتأثير عليها ورميها في وحل الطائفية بأهداف ليست إلا فكرة ثورية.
وكذا الإمارات التي نجحت بفعل الضربات الأمنية في كشف خلية تجسسية، وأصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكما بالسجن سبع سنوات على متهم إماراتي، بتهمة التخابر مع إيران، والسعي إلى تزويدها بمعلومات تضر بالأمن الوطني ومنشآت الدولة وعلاقاتها مع الدول الصديقة.. إضافة إلى الكويت، حيث كانت «خلية العبدلي» التي كشف عنها في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، خير شاهد على محاولات الوجود الإيراني في الخليج، وهي خلية لاحقة لخلية جرى كشفها في عام 2010 وتمت محاكمة أعضائها، وحُكم عليهم بالسجن المؤبد.
لكن ماذا عن الدول الأخرى التي أصبحت إيران صاحبة الكلمة الأولى فيها، متجاوزة الاختراق المجتمعي إلى أسس الدولة، وأصبحت لاعبا ورقما مهما في كيان الحكومات؟
العراق.. ضفة إيرانية
تاريخيا، كانت إيران كدولة ذات تنظيم، تحاول تحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية، ولعل القرب الجغرافي من العراق؛ الدولة العربية، جعله هدفا مرحليا، تحاول معه إيران استغلال المجتمعات الشيعية للوصول إليه، ونقل أفكارها الطائفية إليهم، طاغين بذلك على قوة الدولة، ومفتتين للكيانات المجتمعية، وناشرين حالة من العواصف المذهبية سمحت لتيارات متطرفة بالوجود، وعلى رأسها «داعش».
الكاتب والباحث العراقي الدكتور عبد الرزاق البصري، قال إن إيران الاثني عشرية استطاعت أن تحقق وجودها داخل العراق منذ عام 2003 في ظل الصمت الدولي، وأضاف أن رجال طهران في العراق ليسوا مؤثرين على الصيغ القبلية في المجتمع فحسب؛ بل كان للساسة الموالين لإيران دور في خلق النار المجتمعية في العراق، حتى أصبح، في نظره، إعلان اتحاد العراق مع إيران مسألة وقت.
وعبّر الدكتور البصري في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» بحرقة عن الوضع الذي آل إليه العراق بعد أن منحت الولايات المتحدة إيران فرصة كبيرة للسيطرة على مكونات المجتمع العراقي، وتنفير سكان من مذاهب أخرى رغم نسبها الكبرى في تعداد السكان، معتبرا أن ذلك الرسوخ في تمكن الإيرانيين ساهم في زيادة العنف داخل العراق، وأنه أصبح من المستحيل أن تجعل الدولة ذات نفوذ في مجتمعات عربية أصبحت ترتدي ما يمليها عليها ساسة العراق الإيرانيون، وأنه لن تفيد في رأيه أي إصلاحات حكومية أو بوادر علاج في ظل عدم مواجهة فكرية ومجتمعية للمكونات الإيرانية التي جعلت العراق بلدا ينهشه الخراب الطائفي.
لبنان.. حزب الله يقوض الدولة ويخدم إيران
على الجانب الآخر.. على البحر المتوسط، تحل إيران منذ الثمانينات دولة محتلة، نجحت في إيجاد مكان لها، وعاصمة لوجودها في الضاحية الجنوبية من مدينة بيروت، حيث معقل تنظيم حزب الله الذراع الإيرانية بروح إيرانية، ينفث الدم داخل البلد، ويقحم الدولة اللبنانية في سياق خطير يجعلها وشعبها في قائمة التدقيق الأمني عبر المنافذ العالمية.
ورأى الباحث السياسي اللبناني، سلام وهبي، أن حزب الله، حمّل الشعب اللبناني مسؤولية ارتباطه بإيران، وساهم في مذهبية لم يعشها لبنان في تاريخه، عبر شعارات دينية إيرانية، كان تأثيرها اليوم أن تعيش لبنان دون رئيس جمهورية منذ أكثر من عام ونصف العام، بسبب هذا الحزب وممارساته في سوريا وتورطه بشكل كبير في تحجيم اقتصاد لبنان. وأصبحت اليوم أمام اللبنانيين فكرة عن كيفية المعيشة في بلد يمسك القرار فيه رجال إيران، واعتبر أنه لولا الوقفة الصادقة من الجيش اللبناني لأصبح موضوع الدفاع والأمن بيد إيران عبر حزب الله.
وامتدح سلام في اتصال هاتفي من ألمانيا، الوقفة السعودية الحازمة في وجه إيران التي خسرت نفوذها في اليمن، وتقلص تأثيرها في سوريا، معتبرا أن الوقفات العربية مع السعودية جاءت لأن هذه الدول تؤمن أن الرياض هي السد المنيع الحامي للدول العربية، معتبرا أن سوريا، كما لبنان، «لكن المجتمع اللبناني وتعددية أحزابه الوطنية، ساهما في أن يكون خطا منيعا ضد التغلغل الإيراني رغم وجود حزب الله»، وأن «الحفاظ على ما يسمى (محور المقاومة) يمثّل كذلك مسألة عقائدية شديدة الأهمية لإيران، من حيث التزامها بتصدير مبادئ ما تسمى ثورتهم الإسلامية».
لعبة إيران عبر الشرق الأوسط أصبحت أكثر تجليا، ولم يعودوا يمارسونها بالسر والكتمان، بعد أن فقدوا كثيرا من اللاعبين، وتكشفت فكرة ما تسمى «المقاومة» أو «الممانعة» ضد إسرائيل كما تروّج لذلك أجندات طهران عبر وكلائها الذين تأصلت لديهم العقلية الإيرانية، واعتماد فلسفة حكم تقوم على فكرة «ولاية الفقيه» التي ثبتت في الدستور الإيراني مادة أساسية غير قابلة للنقض والتغيير.