«معرض الكتاب» بجدة يشغل أهلها وزوارها بأمسيات جديدة

بلغ عدد زوار المعرض  490 ألف زائر من مختلف الأعمار والأجناس،   440 دار نشر  شاركت في المعرض (أ.ف.ب)
بلغ عدد زوار المعرض 490 ألف زائر من مختلف الأعمار والأجناس، 440 دار نشر شاركت في المعرض (أ.ف.ب)
TT

«معرض الكتاب» بجدة يشغل أهلها وزوارها بأمسيات جديدة

بلغ عدد زوار المعرض  490 ألف زائر من مختلف الأعمار والأجناس،   440 دار نشر  شاركت في المعرض (أ.ف.ب)
بلغ عدد زوار المعرض 490 ألف زائر من مختلف الأعمار والأجناس، 440 دار نشر شاركت في المعرض (أ.ف.ب)

أكثر من 70 ألف نسمة يحتفلون يوميًا بالكتاب، على مساحة لا تزيد على 50 ألف متر، منذ إشراقة الشمس إلى الليل، وحسابيا وعلى مدار سبعة أيام، فإن نحو 490 ألف زائر من مختلف الأعمار والأجناس، زاروا المعرض، ويتوقع مع إسدال آخر أيام المعرض أن يصل العدد إلى أكثر من 800 ألف، ويراهن منظمو المعرض على أن يقفز عدد الزوار إلى نحو مليون شخص بنهاية يوم الاثنين المقبل، مما يشير إلى أن المعرض - بحسب سكان جدة - فرض أسلوبا جديدا في قضاء الوقت على البحر.
هذه الأعداد التي تخرج من وسط وغرب وجنوب وشمال جدة، إضافة إلى القادمين من جميع المنافذ إلى جدة الواقعة في الشق الغربي من السعودية، دفعهم الكتاب ليتجولوا بين منعطفات وتقاطعات المعرض على أطوال تزيد على 3500 متر داخل مساحة عرض للمشاركين، تقدر بنحو 20600 متر مربع من إجمالي المساحة.
ويرى عدد ممن التقت معهم «الشرق الأوسط»، أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية، أسهمت بشكل مباشر في تدافع قاطني جدة وزائريها من الجنسين الكبار والصغار منهم، أولها طول الفترة الزمنية التي غاب فيها المعرض، إضافة إلى الموقع المطل على البحر الأحمر مباشرة، مع اعتدال الأجواء في جدة التي تصل حرارتها إلى 20 درجة مئوية في منتصف النهار.
ويبدو أن وجود 440 دار نشر في مكان وزمان محدد، فتح الشهية لمرتادي المعرض للخوض في المحتوى وما تطرحه هذه الدار مقارنة بتلك، خصوصا أن هناك كثيرا من العناوين التي تتناول النواحي المعرفية والأدبية، والفلسفية والاجتماعية، هناك أيضا المشاركة المباشرة في ورشات عمل تشمل الفن التشكيلي، والنشر الإلكتروني، والخط العربي، وتقنيات الكتابة المسرحية، والكتابة الإبداعية للأطفال، وغيرها من البرامج التي تدور في فلك الفكر والثقافة.
واطلع زوار معرض جدة الدولي للكتاب، من خلال جناح ناشر الصحراء، على أكبر كتاب بالمعرض، الذي جاء في 210 صفحات، حول مسيرة إعداد مشروع ساعة مكة المكرمة التقنية والهندسية، والنماذج الأولية التي كان قد اطلع عليها الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، الذي حرص على إبراز أهمية الثقافة الإسلامية في مجال العلوم وتطوير آليات القياس المختلفة، وشرح الجناح لزوار المعرض ما يقدمه الكتاب في بداية التجربة الإسلامية في استحداث آليات لقياس الوقت وتحديد اتجاه القبلة.
ويتحدث الكتاب في عدد من صفحاته عن وقف الملك عبد العزيز ومميزاته الهندسية، إلى جانب إبراز الإضافة المشرقة لساعة مكة المكرمة وبما حظيت به من اهتمام من قبل ولاة الأمر، ويشرح بالصورة مميزاتها الهندسية وأطوالها والتقنيات الحديثة المستخدمة لأول مرة التي طوّرت خصيصا لهذا العمل.
ويظهر الكتاب عبر 500 صورة احترافية مراحل التصنيع في داخل السعودية وخارجها، والمقارنات حتى فيما يخص النقوش الإسلامية والخطوط الموجودة في المراكز الإسلامية حول العالم، وما جرى ترسيخه في ساعة مكة المكرمة.
وقال الدكتور سعود كاتب، المتحدث الرسمي لوزارة الثقافة والإعلام، عضو اللجنة العليا المنظمة لمعرض جدة الدولي للكتاب إن «عملية بناء موقع معرض جدة الدولي وتجهيزه على هذه المساحة التي تزيد على 50 ألف متر مربع، منها 20600 متر مساحة العرض، وتجهيز مواقف المركبات، استغرق قرابة ثلاثة أشهر منذ لحظة البدء وحتى بداية الفعاليات».
وأضاف كاتب أن «اللجنة القائمة على المعرض، وضعت نصب عينها كل ما يمكن الاستفادة منه في نشر الوعي والمعرفة وتثقيف المجتمع، من خلال إدراج ورشات العمل التي يتجاوز فيها الحضور لكل ورشة قرابة 70 شخصا، إضافة إلى المسرح الذي يعرض عليه مسرحية ثقافية يستوعب 250 شخصا، وذلك بهدف تشجيع مرتادي المعرض للدخول في كل تفاصيل المعرض والتعرف عن قرب على كل المجالات الثقافية المتاحة».
وأشار كاتب، إلى أن المعرض لا تقتصر برامجه على ما يعرضه الناشرون في أجنحتهم، إذ يعد كرنفالا ثقافيا حقيقيا، لذا عملت اللجنة على تنويع البرامج الثقافية والندوات، حيث يوجد نحو 11 ندوة، يتحدث فيها نخبة من المثقفين والمختصين في كثير من المجالات، وهناك 11 ورشة عمل، إضافة إلى الأمسيات الشعرية والمسرح.
وحول دور المرأة في المعرض، أكد كاتب أن المرأة تلعب دورا حيويا وأعطيت اهتماما كبيرا في المعرض، فهي موجودة في ورشات العمل والندوات، إضافة إلى أن اللجنة المنظمة أعطت المرأة أربع منصات للتوقيع والإهداء، لافتا إلى أن المعرض يحظى بقوة شرائية كبيرة من قبل الزوار، معللا ذلك بالحراك الثقافي الذي تعيشه جدة، وتنوع دور النشر الموجودة في المعرض.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)