من الرياض إلى المجتمع الدولي: لا تعاطف مع الإرهاب

إغلاق ملفات خلايا أعدت للتفجيرات.. وأسهمت في التحريض وإثارة الطائفية

خبراء أمن سعوديون في موقع تفجير مسجد بالدمام في مايو الماضي (أ.ف.ب)
خبراء أمن سعوديون في موقع تفجير مسجد بالدمام في مايو الماضي (أ.ف.ب)
TT

من الرياض إلى المجتمع الدولي: لا تعاطف مع الإرهاب

خبراء أمن سعوديون في موقع تفجير مسجد بالدمام في مايو الماضي (أ.ف.ب)
خبراء أمن سعوديون في موقع تفجير مسجد بالدمام في مايو الماضي (أ.ف.ب)

الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية أخيرًا، والتي أعلن تنظيم داعش المتطرف مسؤوليته عنها، أعادت تسليط الضوء على آفة الإرهاب الذي لا يقيم وزنا للقيم الإنسانية، ويهدد بفتن لا تنتهي. ولئن كانت بعض الجهات قد حاولت لبعض الوقت تجاهل هذه الآفة، أو التقليل من شأنها، وإذا كانت ثمة جهات أخرى قد حاولت أو تحاول ربط الإرهاب بدين بعينه وتعاليم سماوية بعينها، فإن السعودية بادرت إلى تصنيف كل من يمارس العنف باسم الدين تحت المسمى الصحيح ألا وهو «الفئة الضالة». ومن كانت من دول العالم السباقة إلى اعتماد سياسات حازمة للتصدي لهذه الآفة التي استهدفت السعودية كما لم تستهدف دولاً كثيرة غيرها.

أقفل القضاء السعودي، ملفات خلايا إرهابية نفّذت عمليات انتحارية وحرضّت عناصر آخرين على تنفيذ مخططات تستهدف أمن البلاد، عبر قيامهم بتفجيرات إرهابية ومحاولة استهداف القيادات في السعودية وكذلك رجال الدين والأمن، وإلقاء قنابل المولوتوف على المنشآت الحكومية والأمنية، والتشجيع على المطالبة بإسقاط الدولة عبر مسيرات في قرى المحافظات. وتحقق ذلك بعد إصدار أحكام ابتدائية شرعية ضدهم، واستئنافها بصدور حكم الإعدام أو السجن لمدد تصل إلى 30 سنة، حيث أحيلت ملفات القضايا إلى الجهات المعنية في السعودية لتنفيذ عقوبة السجن، وتحديد موعد القصاص.
«الشرق الأوسط» علمت أن أكثر من 60 شخصًا، ممّن تورّطوا في عمليات إرهابية وتحريضية صدرت بحقهم أحكام ابتدائية بالقتل، كما جرى استئناف أحكام عدد كبير منهم، خصوصًا وأن القضاء يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية. وتؤكد هذه الخطوة الوقوف بحزم وعدل في وجه كل مفسد وعابث بأمن البلاد تحقيقًا للعدالة، وتعظيمًا لحق الأنفس المعصومة التي جاءت الشريعة بحفظها والتشنيع على من استهان بها.
ولقد تورّط المدانون في تنظيم «القاعدة» بالإعدام، أو السجن لمدد تصل إلى 30 سنة، في قضايا مختلفة أبرزها التحريض على الإرهاب والقتل، وعمليات التفجير الذي وقعت في السعودية، عندما استهدف تنظيم «القاعدة» ثلاثة مجمعات سكنية في شرق الرياض خلال شهر مايو (أيار) 2003. وفي العام نفسه، نفذ تفجير لمجمع المحيّا السكني، وأيضًا جرى استهداف مجمّع مبنى الوشم، الذي يتكوّن من إدارتي المرور وقوات الطوارئ التابعة للأمن العام، وتفجير مبنى الطوارئ بالرياض، وآخر في خارج مقر وزارة الداخلية، إضافة إلى تفجير مصفاة بقيق النفطية. وفي المقابل، جرى إحباط عدد كبير من العمليات الإرهابية عبر تفخيخ صهاريج مياه، وعدد من السيارات المتوسطة الحجم، لاستهداف مبان حكومية وأمنية وثلاث سفارة غربية في وقت واحد.
وبعدما وصفت وزارة الداخلية السعودية أعمال الشغب المتزايدة في محافظة القطيف وبلدة العوامية (القريبة منها) بالإرهاب، أدين عدد من المتهمين بالتحريض وقتل رجال الأمن والمواطنين، عبر إطلاق النار عليهم أو استهدافهم بقنابل المولوتوف ذات الصنع اليدوية وإثارة الفتنة الطائفية في المجتمع والتدخل في شؤون دول خليجية، أصدرت أحكام بالإعدام والسجن لمدد متفاوتة، كل حسب الجرم الذي اقترفه.
وكان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قد شدد عبر منابر عدة على تكثيف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، في ظل تقاعس بعض الدول عن تفعيل إجراءات لتقصي الحركات المتطرفة، والقضاء عليها. وحقًا، تسعى السعودية، التي كانت ولا تزال هدفا للإرهاب، إلى بلورة فعل دولي عبر ما اقترحه الملك سلمان بن عبد العزيز، في قمة العشرين التي اختتمت أخيرًا في منتجع أنطاليا بجنوب تركيا، بإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأمم المتحدة، وأعلن تبرع السعودية بمبلغ 110 ملايين دولار أميركي للمركز.
وتبرز الصورة الحازمة للسياسة السعودية في التعامل مع الإرهاب بشعارٍ قوي، يوازيه الضبط والمكافحة الأمنية، وسياسات عدة تسعى معها السعودية إلى تحقيق السلم والأمن محليًا وإقليميًا، ومبادرات لم يتوانَ حكام السعودية ووزراء داخليتها إلى طرحها في ملتقيات أممية عدة. ومع مصادقة القضاء على إعدام السعودية أبرز منظرين للإرهاب فيها وهما نمر النمر وفارس آل شويل، إضافة إلى عشرات آخرين ثبت تورطهم في قضايا إرهابية، تكون الرسالة السعودية في منبر عال، خاصة وأنها تأتي بعد أسبوع على وقع هجمات باريس الدامية، وبعد تبنّي «داعش» تفجير طائرة روسية فوق سيناء المصرية.
الواقع أن السعودية لم تنهج سبل الوقاية من العنف والإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) فحسب، بل كانت ساعية إلى هدف تحقيق الأمن والسلم الدوليين، والدلالة على ذلك تتضح من موقفها في قمة الألفية التي عقدت في مقر منظمة الأمم المتحدة خلال سبتمبر 2000، وألقى خلالها الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - (ولي العهد آنذاك) كلمة السعودية نيابة عن الملك فهد - رحمه الله - وشدد على دور الوقاية من العنف، بل وأعلن تبرع السعودية بـ30 في المائة من ميزانية صندوق العمل الوقائي الدولي.
قبل ذلك التاريخ أيضا كانت السعودية أول دولة من دول العالم الإسلامي توقّع على معاهدة «مكافحة الإرهاب الدولي» في يوليو (تموز) 2000، وسبقت في إجراءاتها عددًا من الدول الكبرى في ما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب وتهريب المخدرات. فهي وقعت وانضمت إلى اتفاقية مكافحة تهريب المخدرات في عام 1988، وجمّدت أرصدة زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن منذ عام 1994، وعملت وفق إجراءات قوية على مكافحة تبييض الأموال.
كذلك استضافت السعودية مؤتمرًا دوليًا لمكافحة الإرهاب في أوائل عام 2005 بمشاركة أكثر من خمسين دولة ومنظمة دولية، ثم استضافت في عام 2013 المؤتمر الدولي المعني بتعاون الأمم المتحدة مع مراكز مكافحة الإرهاب، وكانت جميع هذه المبادرات الدولية تحمل رسائل الرياض إلى العالم، ومؤداها أن القضاء على الإرهاب لا يمكن أن يتحقق إلا بتعاون دولي في استئصال جذوره ومعالجة أسبابه.
الدكتور ناصر العتيبي، قال في هذا الصدد إن «الجهود السعودية كبيرة في تحقيق السلم والأمن عالميًا»، مؤكدًا على الدور القيادي للسعودية في وضع أطر مؤسسية لمكافحة الإرهاب، وأضاف العتيبي خلال اتصال مع «الشرق الأوسط» أن «التقارير الدولية تشير إلى مقاربة الجهود السعودية في مكافحة الإرهاب، وأنها من أكثر الدول التي تعرّضت للجرائم التي تهدد أمن وسلامة الناس لكنها نجحت عبر برامجها في وضع حد كبير ضدها».
وعبّر العتيبي، المتخصص في شؤون العلاقات الدولية، أن «أمام الدول الغربية كثيرا من القناعات التي بادرت بها السعودية في إطار تبنيها لخطط لمكافحة الإرهاب، من خلال كثير من الإجراءات يكون من ضمنها مرصد دولي يعمل على تبادل المعلومات بين الدول، واستصدار قوانين رادعة ضد كل من يهدد الأمن المحلي والإقليمي والدولي»، معتبرا أن «ذلك من شأنه ترقية الوعي ونشر التسامح، والحوار العالمي». أيضًا، وصف تقرير لكريستوفر بوشيك، المتخصص في قضايا الشرق الأوسط بمعهد كارنيغي بواشنطن، العمليات الأمنية السعودية وعملها المؤسسي بأنها «أفضل برنامج مضاد للتطرّف في العالم من حيث الشمولية والاستمرارية»، وأردف أن البرنامج السعودي «يعطي النتائج التي تسمح للدول الأخرى من الاستفادة منه»، واستطرد في تقريره أن « دولا في الشرق الأوسط وأوروبا بدأت تحاكي البرنامج السعودي وإجراءاته».
الجدير بالذكر، أنه عبر العقود الماضية ألحق الإرهاب بالسعودية أضرارًا جسيمة وخلّف ضحايا من المدنيين والعسكريين. ولقد حاول خلال تلك الفترة أفراد التنظيمات الإرهابية شلّ الحياة في البلاد، التي تجاوزت بخبرة اليوم وقوة الأمس كل التحديات. فكانت السعودية في أبرز صور التصدي للإرهاب عند اقتحام جهيمان العتيبي الحرم المكي بعشرات من المسلحين، الذين انتهى بهم الحال جميعًا على مقصلة القضاء الذي حكم بإعدامهم في عدد من مناطق السعودية خلال العام 1979.
وكان للحزم السعودي أمام الإرهاب مثال آخر تجسّد في قضية الإعدام الأخرى في مكة المكرمة، حيث أُدين 16 كويتيا بالضلوع في تفجيرين قرب الحرم المكي في موسم الحج عام 1989، ذهب ضحيتهما شخص واحد وسجلت أكثر من 10 إصابات. وكانت وراء التفجيرين ما عُرف بخلية «حزب الله الكويتي» التي تلقّت أوامرها من إيران بهدف ضرب استقرار الحجاج قبل بدء موسم حجهم، ونفذت السعودية حكم الإعدام بعد تصديقه شرعًا وفق الأنظمة القضائية.
كذلك حكم القضاء السعودي على أربعة من الإرهابيين بالقصاص (الإعدام) بعد اعترافهم بتفجير العُليّا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1995 وهم: عبد العزيز المعثم ورياض الهاجري ومصلح الشمراني وخالد أحمد السعيد، بعدما نجحت القوات الأمنية في إلقاء القبض عليهم. ويومذاك أعلن وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه جرى القبض على الجناة «اعتمادًا على خبرات رجال المباحث العامة وكفاءتهم»، وتم تقديمهم للعدالة التي أنهت القضية بإعدامهم.
وفي أغسطس (آب) الماضي نفّذت السعودية عقوبة الإعدام في اثنين من أفراد تنظيم «القاعدة». وكانت أول عقوبة منذ بدء موجة الإرهاب قبل أكثر من عشر سنوات، حين نفذت الحكم الصادر من المحكمة الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب، بحق عنصرين من عناصر «القاعدة» وهما من الجنسية التشادية، في مدينة جدة، بعد قتلهما أحد المقيمين في السعودية من الجنسية الفرنسية.
وحينذاك أعلنت وزارة الداخلية في بيانها أن صالح بركاج وإسحاق شاكيلا انضما إلى خلية إرهابية داخل السعودية تابعة لتنظيم «القاعدة» الإرهابي «تعتنق المنهج التكفيري المُخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وتعمل على رصد ومتابعة المستأمنين والمعاهدين». وقاما بإطلاق النار على أحد المستأمنين من الجنسية الفرنسية، ويدعى لوران باريو، حيث قاما برصده ومتابعته وإطلاق النار عليه من سلاح رشاش تسبب في قتله «بناء على معتقد فاسد باستباحة دماء المستأمنين والمعاهدين والشروع في اغتيال بعض المسؤولين الأجانب داخل السعودية، ورصد ومراقبة السيارات التابعة لإحدى القنصليات بالسعودية، وإطلاق النار على بعض منسوبيها، واتفاقهما على استهداف الرعايا الأجانب بصفة فردية بقصد اغتيالهم، وحيازتهما أسلحة بقصد الإفساد والاعتداء والإخلال بالأمن».
وفي عام 2008 أنشئت «المحكمة الجزائية المتخصصة» بموجب أمر ملكي للنظر والتسريع في قضايا الإرهاب والموقوفين في قضايا أمن الدولة. وبدأت النظر بعدها بعام ونصف في القضايا المتعلقة بالموقوفين الأمنيين والتيارات المتطرفة، وقضايا سجن أخرى بحق متهمين على علاقة بالمنهج التكفيري. وتتصدّى المحكمة الجزائية المتخصّصة قضائيا لقضايا المتورّطين في قضايا الإرهاب، منذ بدء موجة الإرهاب على السعودية في مايو عام 2003 بتفجير ثلاثة مجمّعات سكنية في العاصمة الرياض، وما تبعها من أحداث، من مجمع المحيّا السكني بالرياض وكذلك مجمّع الواحة بالمنطقة الشرقية، وهي قضايا أغلقتها المحكمة وأصدرت فيها الأحكام، وكان التنفيذ بالأمس.
وتمتثل المحكمة الجزائية المتخصصة لمبدأ علنية الجلسات، وتتيح الفرصة لممثلي جمعية حقوق الإنسان ووسائل الإعلام ووكلائهم من المحامين وذوي المتهمين لحضور جلسات المحاكمة، والاستماع إلى مداولات الجلسات ومنطوق الأحكام.
وكانت المحكمة قد أكدت في العام الماضي أن أعداد المحكوم عليهم بلغ 1940 متهمًا منهم أفراد وخلايا تورّطوا في قضايا إرهابية وتهديد للأمن والسلم في السعودية، وأصدرت خلالها أحكامًا ابتدائية على 314 متهما أدينوا بالإرهاب أو تمويله، علاوة على العشرات من الأحكام لمتهمين على علاقة بالمناهج المتطرفة من «القاعدة» و«جبهة النصرة» و«داعش» وغيرها من التيارات المتطرّفة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.