ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

معركة رئاسة بلدية العاصمة البريطانية تعكس تعدديتها الثقافية الغنية

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن
TT

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

ابنا ثري يهودي وسائق حافلة باكستاني مسلم.. يتنافسان على منصب عمدة لندن

لا جدال في أن العاصمة البريطانية لندن تعد في طليعة مدن العالم «الكوزموبوليتانية»، حيث تتعدد الثقافات وفي كثير من الأحيان تتزاوج وتنصهر. وخلال العام المقبل، بعدما يودّع العمدة الحالي والسياسي والإعلامي المحافظ بوريس جونسون، الذي كان جدّه لأبيه تركيًا مسلمًا اسمه عثمان كمال، سيخلفه الفائز من انتخابات يخوضها الحزبان الكبيران، حزب المحافظين وحزب العمال، بمرشحين شابين يجسدّان مجددًا هوية لندن وتعدديتها الدينية والثقافية واهتماماتها الاقتصادية والبيئة والاجتماعية.
أصلاً، لندن اعتادت على انتخاب شخصيات تتمتع بالجاذبية الشخصية الكبيرة، ولئن كان العمدة الحالي جونسون يُعدّ من أكثر الساسة المحافظين شعبية، وينظر إليه كثيرون على أنه الشخصية الأنسب لخلافة ديفيد كاميرون في زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة، فإن العمال سبق لهم أن انتخبوا كين ليفنغستون. وكان ليفنغستون، ذلك السياسي اليساري المتشدد اللامع، الرجل الذي صادم مارغريت ثاتشر في عزّ سطوتها، وبلغ تخوّفها من شعبيته وجاذبيته الجماهيرية حد اتخاذها قرار إلغاء المجلس البلدي الموحّد للندن الكبرى بمناطقها الـ15 والاكتفاء بالمجالس المحلية لكل من هذه المناطق.
تنبع أهمية منصب عمدة لندن من المكانة الاستثنائية للعاصمة البريطانية ذاتها. فليست كل مدينة في بريطانيا بمستوى لندن، سواءً من حيث حجمها السكاني، أو مكانتها المالية والاقتصادية والخدماتية والسياحية والثقافية، أو صورتها المميزة كـ«عاصمة عالمية»... لا تنافسها في هذا سوى حواضر قليلة بالكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل نيويورك وباريس وطوكيو وبرلين.
وبالتالي، يوفر منصب عمدة لندن لشاغله إطلالتين: إطلالة وطنية كونه رئيس أكبر سلطة محلية منتخبة على مستوى بريطانيا، وإطلالة دولية كون لندن إحدى «العواصم العالمية» القليلة التي تستقطب الرساميل والاستثمارات والسياح، ناهيك من مجتمعات الأعمال، وتجتذب بخدماتها المتطورة كل فئات المجتمع. خلال الأسابيع القليلة الفائتة حسم الحزبان البريطانيان الكبيران معركتيهما الداخليتين، ففاز عضو مجلس العموم البريطاني زاك غولدسميث، بفارق كبير، بترشيح حزب المحافظين الحاكم لمنصب عمدة العاصمة. وكان قد سبقه عضو مجلس العموم والوزير العمالي السابق صديق خان بالفوز بترشيح حزب العمال لهذا المنصب المرموق.
المرشحان «أربعينيان» ينتمي كل منهما إلى التيار التجديدي المعتدل في حزبه، وهما يمثلان دائرتين انتخابيتين في جنوب لندن. ولكن عند هذه النقطة تتوقّف المقارنات، إذ إن خلفيتيهما الاجتماعيتين تختلفان اختلافًا جذريًا.
* البرامج مطلبية
من يعرف مناخات السياسة البريطانية يدرك أن الناخب البريطاني إنما يقترع بناء على البرامج السياسية التي تطرحها الأحزاب، وهو وإن تأثر بعوامل شخصية هنا أو دينية هناك تظل المعايير معايير مطلبية ومصلحية في المقام الأول. وهذا الواقع يتضح أكثر في صفوف التيارين اليميني في حزب المحافظين واليساري في حزب العمال حيث يلعب الولاء الطبقي والمستوى المعيشي – لجهة الدخل – الدور الأساسي في أولويات المحازبين والحركيين الملتزمين.
وهكذا، بصفة عامة، تصوّت المناطق حيث تشكل الملكية العقارية الفردية نسبة غالبة من مجموع التوزع العقاري لحزب المحافظين. كذلك يتمتع هذا الحزب بتأييد سكان الضواحي الراقية خارج المدن الصناعية. أما حزب العمال فيحصل على النسبة أعلى من التأييد في المناطق والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الإسكان الشعبي، وكذلك في البيئات الصناعية التقليدية، وحتى الأمس القريب في مناطق المناجم. وفي ضوء هذا الواقع يلاحظ أن في صميم برامج المحافظين السياسية والانتخابية تحفيز المبادرة الفردية ومكافأة الطبقة الميسورة والطبقة ما دون الوسطى بخفض الضرائب وخفض الإنفاق على الخدمات العامة وتحرير الرساميل في أيدي أصحابها. وفي المقابل، تحرص البرامج السياسية والانتخابية للعمال على تعزيز والإنفاق على الخدمات العامة التي تشكل شبكة أمان للفقراء والعاطلين عن العمل والعائلات الكبيرة من الطبقات الفقيرة ما دون الوسطى.
ولكن خلال الفترة منذ عام 1978 جرّب الحزبان الكبيران التطرّف والاعتدال. وأيضًا اقترب الحزبان في عدة مراحل زمنية من مواقع وسط الساحة، إذ لم يكن هناك فوارق آيديولوجية تذكر بين المعتدلين من الحزبين، مثل توني بلير العمالي المعتدل وديفيد كاميرون المحافظ المعتدل، بينما توجد فوارق هائلة بين الجناحين الراديكاليين فيهما.
* أهمية كسب غير الملتزمين
اليوم الحزبان يعدان العدة لخوض انتخابات المجلس البلدي للندن بشخصيتين تتمتعان بشعبية لا تنكر كل داخل حزبه. ويكاد يكون هناك شبه إجماع على أن أيًا منهما لا يعبّر عن الجماعات الراديكالية المتزمتة داخل الحزبين، وذلك لأن من مصلحة الحزبين كسب أوسع حيّز ممكن من جمهور الناخبين غير الملتزمين، وأولئك الذين يقترعون على أساس قضية مطلبية بعينها بمعزل عن الهوى الآيديولوجي.
وبالتالي، اختار المحافظون مرشحًا مهتمًا جدًا بالبيئة – بل هدّد بالوقوف ضد حزبه إذا تبنى الحزب خطط توسيع مطار هيثرو – لكي يسحب أصوات ناخبين يمكن أن يصوّتوا لمرشح حزب «الخضر». ومن جهتهم، اختار العمال مرشحًا ذا خبرة كبرى في الحكم المحلي (البلديات) والنقل، وهما قطاعات يمسان حياة الناس مباشرة، لأنهم يأملون أن يكسب نسبة عالية من الأصوات التي قد تذهب للديمقراطيين الأحرار، وكذلك «الخضر» وبعض القوى المطلبية الصغيرة.
* زاك غولدسميث.. الأرستقراطي الثري
زاك غولدسميث (40 سنة)، واسمه الكامل فرانك زكارياس روبن غولدسميث، ولد يوم 20 يناير (كانون الثاني) 1975 في العاصمة البريطانية لندن. وهو ابن رجل الأعمال الملياردير السير جيمس غولدسميث، المتحدّر من أسرة يهودية ألمانية ثرية، وزوجته الثالثة الليدي آنابيل فاين - تمبست ستيوارت، وهي سيدة أرستقراطية من أصول إنجليزية – آيرلندية.
تربّى زاك مع شقيقيه جيما وبن في قصر العائلة في الضواحي الجنوبية الخضراء للندن على ضفاف التيمس، ودرس ثم تخرج في كلية إيتون، إحدى أعرق وأرقى مدارس العالم الخاصة، غير أنه لم يتابع دراسته الجامعية، بل جال في مختلف أنحاء العالم ونمت عنده اهتمامات كبير بمسائل حماية البيئة. وبناءً عليه أسند إليه عمه إدوارد غولدسميث عام 1997 منصبًا تحريريًا في مجلة «ذي إيكولوجيست» البيئية التي كان العم قد أسسها وتولى نشرها. وفي العام التالي أسندت إليه رئاسة تحريرها وإدارتها، غير أنه عندما قرر خوض غمار السياسة عام 2006 تخلى عن منصبيه في المجلة، وإن ظل يكتب عن البيئة في عدد من الصحف والمجلات البريطانية الكبرى.
عام 2005 عينه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نائبًا لرئيس مجموعة «فريق سياسة نوعية الحياة» معاونًا لرئيسها الوزير السابق اللورد ديبين (جون سلوين – غامر). وعام 2010 رشحه حزب المحافظين لخوض الانتخابات عن دائرة ريتشموند بارك وفاز بالمعقد البرلماني، منتزعًا إياه من حزب الديمقراطيين الأحرار. وكرر فوزه بالمقعد في الانتخابات العامة الأخيرة في الربيع الفائت بغالبية كبيرة من الأصوات بلغت أكثر من 23 ألف صوت عن أقرب منافسيه. ولدى تحضير الحزب لانتخابات منصب عمدة لندن دخل غولدسميث حلبة المنافسة داخل الحزب وفاز بغالبية ضخمة أيضًا، إذ حصل على 6514 صوتًا مقابل 1488 صوتًا فقط لأقرب منافسه عضو البرلمان الأوروبي سعيد كمال. وهكذا تأهل لخوض المعركة في وجه مرشحي عدة قوى، في مقدمتها حزب العمال.
زاك غولدسميث، تزوّج مرتين، وهو أب لأربعة أولاد. وحاليًا يسكن في حي بارنز الراقي جنوب نهر التيمس بجنوب غربي لندن، وتقدّر المصادر أنه ورث عن أبيه بعد وفاته ثروة تقدّر بما بين 200 و300 مليون جنيه إسترليني. وتجدر الإشارة إلى أن شقيقته جيما غولدسميث - خان، التي اعتنقت الإسلام، كانت متزوجة بلاعب الكريكيت الباكستاني العالمي عمران خان، الذي اقتحم مثل شقيقها غمار السياسة في باكستان. وحصلت على شهادة الماجستير في الفكر الإسلامي المعاصر من معهد الدراسات الشرقية الأفريقية بجامعة لندن.
* صديق خان.. العصامي الطموح
بعكس التربية الأرستقراطية لآل غولدسميث، فإن المرشح العمالي صديق خان (45 سنة) رجل عصامي، كان أبوه المهاجر الباكستاني المسلم سائق حافلة وتعمل أمه في الخياطة، لكنه نجح في حياته المهنية والسياسية ليغدو عام 2008 ثاني مسلم في تاريخ بريطاني يصبح وزيرًا.
ولد صديق عمران خان يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 في لندن ونشأ في مجمع إسكان شعبي بحي إيرلزفيلد بجنوب المدينة. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرستين حكوميتين قبل أن يلتحق بجامعة شمال لندن لدراسة الحقوق. ومن ثم مارس صديق تدريس الحقوق، وكذلك زاول مهنة المحاماة بنجاح، بل وانتخب في عدة مواقع قيادية في الجمعيات الخاصة المهتمة بالحقوق المدنية.
من جانب آخر، انجذب صديق للسياسة، وخاض غمار العمل البلدي في صفوف حزب العمال، فانتخب عضوًا في المجلس البلدي لمنطقة وانزوورث بجنوب لندن عام 1994 ممثلاً حي توتينغ، واحتفظ بمقعده في المجلس حتى عام 2006. وعام 2005 دخل مجلس العموم لأول مرة بعد فوزه في الانتخابات عن دائرة توتينغ، واحتفظ بمقعده البرلماني عام 2010، ثم في الانتخابات الأخيرة خلال العام الحالي.
في أكتوبر 2008، بعد تعديل حكومي أجراه رئيس الوزراء حينذاك غوردن براون، عين صديق خان وزير دولة للجاليات والتجمعات المحلية، فبات ثاني مسلم يتولى الوزارة في بريطانيا.
وعام 2009 عين وزيرا للنقل ودخل مجلس الوزراء المصغّر. وهو اليوم، «وزير في حكومة الظل» العمالية لشؤون لندن. تمكن يوم 15 سبتمبر (أيلول) الماضي من حسم معركة ترشيح حزبه لمنصب العمدة حاصلاً على 48152 صوتًا، أي ما نسبته نحو 59 في المائة من الأصوات، متغلبًا على منافسته الأقوى الوزيرة السابقة تيسا جاويل التي حصلت على أكثر بقليل من 41 في المائة من الأصوات.
المرشح العمالي متزوج منذ عام 1994 وزوجته مسلمة اسمها سعدية، وهو أب لثلاثة أولاد.
* الأحزاب الأخرى
المعركة في لندن مفتوحة أمام عدة أحزاب ولا تقتصر بحال من الأحوال على المحافظين والعمال، ففي وسط الساحة الآيديولوجية هناك حزب الديمقراطيين الأحرار، الوسطي الليبرالي الذي ورث المبادئ الليبرالية من حزب الأحرار العريق. وفي يمينها هناك حزب «استقلال المملكة المتحدة» النازع للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والمناوئ بشدة للهجرة، وعلى يسارها يعد حزب «الخضر» البيئي إحدى أبرز قوى اليسار والقوى البيئية التي تتصادم أولوياتها مع التنمية السريعة وتخويل القطاع الخاص بكل شيء. أيضًا هناك جماعات هامشية متطرفة في اليمين واليسار، تجمعات مصلحية تدافع عن مطالب محلية أو آنية محددة، ولا ترضى بتذويبها أو تخفيفها في جدل سياسي عام يضيع بوصلتها ويضعف زخم الدفاع عنها.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.