كيف قسمت القضية النووية الإعلام الإيراني؟

الرئيس الإيراني أقنع نفسه بأنه يستطيع المراوغة بحيث يؤمن رفع العقوبات من دون تقديم أي تنازلات

كيف قسمت القضية النووية الإعلام الإيراني؟
TT

كيف قسمت القضية النووية الإعلام الإيراني؟

كيف قسمت القضية النووية الإعلام الإيراني؟

على مدار أكثر من عام هيمنت قصة واحدة على وسائل الإعلام الإيرانية، وهي تسوية النزاع حول المشروع النووي للبلاد ورفع العقوبات المفروضة عليها.
الرئيس الإيراني حسن روحاني عقد العزم على تحويل القضية النووية إلى الشغل الشاغل لإدارته، لا سيما بعدما فاز بمنصبه بأقل هامش ونسبة إقبال في تاريخ الانتخابات بالجمهورية الإسلامية. روحاني كان يدرك أن أي محاولة لتطبيع العلاقات مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، ستحظى بشعبية هائلة في إيران. لكنه كان يدرك أيضًا أن تطبيع هذه العلاقات مرهون بتسوية القضية النووية. وبذلك بات من المحتم أن تركز وسائل الإعلام على هذه القضية.
المؤشرات الأولى على أن أمرًا ما يلوح في الأفق جاءت في عدد من الصحف المقربة من فصيل الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، والذي كان معارضا للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. وكشفت صحيفتا «اعتماد» و«آرمان» اليوميتان أن إدارة أوباما عقدت محادثات سرية مع مبعوثي أحمدي نجاد في عمان في 2011 و2012. حيث قبلت فعليًا جميع المطالب الإيرانية على الفور.
وهكذا فوجئ روحاني بعد تولي الحكم أن وزير الخارجية السابق علي أكبر صالحي يبلغه في إفادة خاصة أن الأميركيين «متلهفون إلى اتفاق، أي اتفاق فعليًا».
وقال صالحي للرئيس روحاني «هذه فرصتنا المثلى... أوباما يعرض ما لن يعرضه أي زعيم أميركي آخر. دعنا لا نفوت هذه الفرصة الفريدة».
ربما تكون القراءة المفرطة في التبسيط لنوايا أوباما قد وضعت استراتيجية روحاني برمتها على المسار الخاطئ. الرئيس الإيراني أقنع نفسه بأنه يستطيع المراوغة، بحيث يؤمن رفع العقوبات من دون تقديم أي تنازلات ذات مغزى.
هذا المزاج المتفائل استمر عدة شهور مع مواصلة وسائل الإعلام الإيرانية في بث رسالة من الأمل. وعندما تمخضت محادثات لوزان عن بيان صحافي، قدمه روحاني على أنه اتفاق وأثنى عليه بوصفه «أعظم نصر دبلوماسي في تاريخ الإسلام».
وعلى صدر صفحتها الأولى، كتبت صحيفة «إيران» المملوكة للحكومة «أننا على أعتاب عصر ذهبي جديد». بيد أنه اتضح بعد أيام أن وثيقة لوزان لا يمكن اعتبارها اتفاقًا بأي معنى للمصطلح. وقد لاحظ المعلقون الاختلاف بين النص الإنجليزي للبيان وترجمته الفارسية.
وأشارت صحيفة «كيان»، التي يعتقد أنها تعبر عن رؤى «المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي، إلى تلك الاختلافات، وشنت انتقادًا لاذعًا ضد بيان وقائع (Fact Sheet) نشرته وزارة الخارجية الأميركية زعمت فيه أن إيران قدمت سلسلة من التنازلات الكبرى. وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، رئيس وفد بلاده إلى المحادثات النووية، حاول صرف الانتباه عبر دفعه بأن بيان الوقائع الأميركي كان يهدف إلى تجريد معارضي الاتفاق في واشنطن من أسلحتهم. كما هاتف نظيره الأميركي جون كيري لكي يطلب رفع البيان من على موقع الخارجية الأميركية على شبكة الإنترنت.
هذا الحادث هز ثقة الكثيرين في وسائل الإعلام الإيرانية.
وتساءل موقع «رجا نيوز» الأصولي «هل يخبروننا بالحقيقة؟». الإجابة الضمنية كانت «لا» مدوية.
وعندما حان موعد انطلاق الجولة الأخيرة من المحادثات في العاصمة النمساوية فيينا، كان الإعلام الإيراني منقسمًا إلى معسكرين. المعسكر الأول، ويمثل الأغلبية من حيث عدد المنابر الإعلامية، دعم المحادثات وحث كلا من مجموعة 5+1 وإيران على التوصل إلى تسوية.
بل إن الصحف والمواقع الإخبارية المقربة من رافسنجاني وتجار البازار وعدد من الملالي المتنفذين، كادت تجزم بأن المشروع النووي لا يستحق المعاناة التي لحقت بإيران جراء العقوبات والعزلة الدبلوماسية.
وتساءل كاتب العمود صادق زيبا كلام، الموالي لروحاني، عما إذا كانت إيران بحاجة إلى مشروع نووي بالأساس. ودفع بأنه إذا كان هذا المشروع يهدف إلى إنتاج الكهرباء، فإيران ليست بحاجة إليه لأنها تمتلك كميات ضخمة من الغاز والنفط. وعلي أي حال، فقد منعت التكلفة الباهظة للمشروع الحكومة من الاستثمار في مجالات أخرى للتنمية. هذا الجدال الذي نشأ عرضًا سلط الضوء على حقيقة مفاجئة، وهي أن المشروع النووي لم تجر مناقشته قط علانية، ليس فقط في وسائل الإعلام، ولكن في المجلس الإسلامي (البرلمان) أيضًا.
وعلى مدار أسابيع قليلة، تمكن الإيرانيون من قراءة مقالات مؤيدة ومعارضة للمشروع النووي. بيد أن وزارة الإرشاد الإسلامي كتبت إلى رؤساء التحرير، عشية محادثات فيينا، تحذرهم من انتقاد استراتيجية وتكتيكات روحاني في المفاوضات. وتعرضت صحيفة «7 داي» الأسبوعية، والتي تجاهلت أوامر الوزارة، لإغلاق غير رسمي، بينما وجهت «تحذيرات صارمة» لمنبرين إعلاميين آخرين انتقدا روحاني، من بينهما، صحيفة «كيان» المتنفذة.
يذكر أن حكومة روحاني أغلقت في غضون عامين عددًا من الصحف يفوق ما أغلقه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد على مدار 8 أعوام كاملة.
إلا أن إغلاق الصحف ليس بالمهمة السهلة في إيران، إذ أن جميع المنافذ الإعلامية في البلاد تخص شخصا ما مؤثرا داخل المؤسسة الحاكمة. كما أن الكثير من الإصدارات مملوكة مباشرة للحكومة أو للحرس الثوري الإيراني. رغم ذلك تستطيع الحكومة إجبار الكثير من وسائل الإعلام على الالتزام بالنهج الرسمي عبر تهديدها بقطع الدعم المادي عنها، وتقليص مشترياتها من نسخها المطبوعة، وتخفيض حصتها من إعلانات القطاع العام. وبالطبع فإن الملالي والجنرالات الذين يمتلكون الصحف غير مستعدين للإنفاق عليها من أموالهم الخاصة. ولأنه لا توجد الآن صحيفة واحدة في إيران تغطي نفقاتها الخاصة، لا تستطيع أي منها البقاء من دون الدعم الحكومي.
وفي ضوء هذه الظروف، يصبح نجاح وسائل الإعلام الإيراني في خلق حالة من النقاش الجاد حول القضية أمرًا جديرًا بالملاحظة. بالطبع ساعدتها في ذلك معارضة الكثير من الشخصيات النافذة في المؤسسة الخومينية لإبرام أي اتفاق، انطلاقا من قناعاتها الآيديولوجية. وربما الأمر الأكثر أهمية هو تفسير البعض لرفض خامنئي الانحياز إلى أي طرف بأنه ضوء أخضر لفتح نقاش علني حول القضية.
ومكن الجدل الدائر كلا الجانبين من الدفاع عن مواقفهما المتعارضة تمامًا بإسهاب وشغف، فضلا عن إلقاء الضوء على قضية معقدة. وقدم المفاوض النووي السابق سعيد جليلي عملية مكاشفة رائعة لما اعتبرها وثيقة «انتهكت استقلال إيران وسيادتها الوطنية». وفي الطرف الآخر من الجدال، دفع مدير وكالة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي بأن إيران تعهدت في اتفاق فيينا «بألا تفعل أمورًا لم نكن نفعلها على أي حال، ولم نرد أن نفعلها ولا نستطيع أن نفعلها في ذلك الوقت». أي أن الجانب الإيراني حصل على رفع العقوبات من دون أن يغير برنامجه النووي.
وبحلول الشهر الماضي، وجد روحاني نفسه مضطرًا لأن يخفف من لهجته المتفاخرة.
ولم يعد الرئيس الإيراني يتحدث عن «الفتح المبين». وقال مستخدمًا مصطلحات كرة القدم «سجلنا ثلاثة أهداف واستقبلنا هدفين». كما لم يعد يدعو إلى «احتفالات عفوية» في الشوارع تطلق فيها السيارات نفيرها ويؤدي الشباب الرقصات الشعبية. الأهم أن روحاني صرح علانية بأنه لا يعتبر «اتفاق» فيينا قانونيًا أو ملزمًا، في تلميح إلى أن إيران لا تعتزم تنفيذه على النحو الذي يتباهى به الرئيس باراك أوباما في واشنطن. كما لم يرد أن يصوت البرلمان الإيراني على «الاتفاق» تحاشيا لجعله جزءًا من القانون المحلي الإيراني مما يجبر الحكومة على الالتزام به. وهكذا لا بد أن أعترف، وإن كان على مضض، وبعد متابعة تغطية القضية في وسائل الإعلام الإيرانية والأميركية، أن الإيرانيين تفوقوا في هذا المضمار. في الولايات المتحدة، تركز الجدل حول أوباما، سواء بالتأييد أو المعارضة، وهيمنت شخصية الرئيس على النقاش. لكن في إيران، وربما لأن الشخصية الكبرى خامنئي ظلت على الحياد، جرى مناقشة القضية نفسها. والنتيجة أن الإيرانيين باتوا الآن على دارية أوسع بأبعاد القضية النووية مقارنة بالمواطنين الأميركيين.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.