لم يسبق في تاريخ الجمهورية الخامسة أن عمد أحد رؤسائها السبعة السابقين، بدءاً من مؤسسها الجنرال شارل ديغول، وحتى الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند أن أصدر في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل مرسوماً تنفيذياً لقانون صادق عليه المجلس الدستوري. وما لم يفعله الرؤساء السابقون فعله الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، بعد أن صدر قرار عن المجلس الدستوري بالموافقة على الأساسي من قانون إصلاح نظام التقاعد القاضي برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، رغم المطالبة الجماعية من النقابات وأحزاب اليسار والخضر واليمين المتطرف بعدم إصدار القانون، لا بل سحبه، أو على الأقل تجميده لعدة أشهر.
ولا يمكن فهم تسرع ماكرون الذي يمنحه الدستور مهلة 15 يوماً للتصديق على القرار إلا من زاويتين: الأولى، رغبته في طي صفحة الجدل الذي يتواصل منذ 4 أشهر بشأن هذا القانون الخلافي الذي أنزل ملايين المواطنين إلى الشوارع في 12 يوماً تعبئة للتعبير عن رفضهم لقانون يعتبرونه مفتقراً للعدالة. والثانية إظهار أنه «الرئيس الحديدي» الذي لا يتراجع، الرافض للانحناء أمام النقابات والشارع واليسار.
ولم يشكل قرار المجلس الدستوري هزيمة واحدة للرافضين للقانون الجديد بل شكَّل هزيمتين، لأن المجلس المذكور رفض المصادقة على طلب قدمته مجموعة من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ لطرح القانون الجديد على التصويت في استفتاء شعبي، في إطار ما يسمى «الاستفتاء بمبادرة مشتركة».
مثلما كان متوقَّعاً، كانت ردة الفعل على قرار المجلس المذكور رافضة وعنيفة. وتجلى ذلك بمظاهرات عفوية سارت في باريس ومرسيليا وليون ورين وليل واستراسبوغ وتولوز وغيرها من المدن الرئيسية، حيث نزل الآلاف من المواطنين إلى الشوارع والساحات وكلهم يشعر بالخيبة من قرار يرونه «غير عادل»، بينما لم يتردد كثيرون منهم في التنديد به باعتباره «مسيساً».
بيد أن الأمور تدهورت في باريس، حيث كانت مديرية الشرطة قد منعت تجمهر نحو 4 آلاف شخص في محيط مقر المجلس الدستوري، وسمحت بالتجمع في ساحة بلدية العاصمة الرحبة الواقعة قريباً من كاتدرائية نوتردام. إلا أن مسيرات ضمت المئات انطلقت بعد الإعلان عن المصادقة على القانون الجديد، وحصلت مناوشات واشتباكات مع قوات مكافحة الشغب والشرطة، وأشعلت العديد من الحرائق في باريس، وأُلقي القبض على أكثر من مائة شخص، غالبيتهم ينتمون إلى مجموعات يسارية متطرفة، أبرزها مجموعة «بلاك بلوك». وأسوأ الأحداث وقع في مدينة رين (غرب فرنسا)، حيث أحرق مدخل أحد مراكز الشرطة والباب الخارجي لكنسية سابقة تحولت منذ سنوات إلى مركز للمؤتمرات.
هل انتهت الأمور وقلبت صفحة قانون التقاعد؟ الجواب جاء أمس على ألسنة المسؤولين النقابيين وقادة الأحزاب المعارضة التي اعتبرت جميعها أن «الكفاح مستمر»، وأن إصدار القانون بمرسوم نشر ليلاً في الجريدة الرسمية لا يعني نهاية المطاف.
ودعت النقابات الـ12 للاجتماع يوم الاثنين المقبل من أجل رسم خطة التحرك القادم. ومنذ ما قبل الاجتماع، قررت الدعوة إلى نزول أكبر عدد من المواطنين، في مظاهرات الأول من مايو (أيار) المقبل، للضغط على ماكرون والحكومة لتجميد العمل بالقانون الجديد. وهذا الأمر سبق أن جرى في عهد الرئيس جاك شيراك؛ إذ أصدر قانوناً صوت عليه في البرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ)، وأقره المجلس الدستوري، ولكن الرفض الشعبي له، خصوصاً من فئة الشباب، دفع الرئيس الأسبق إلى سحبه من التداول حفاظاً على السلم الاجتماعي.
كذلك، عمدت النقابات إلى الإعلان عن رفضها قبول دعوة الرئيس ماكرون لجلسة حوار يوم الثلاثاء المقبل، معتبرةً أن أداءه «سلطوي»، وهو مصرّ على السير بقانون أُقر في مجلس النواب من غير تصويت، وما زال نحو ثلثي المواطنين رافضين له. واليوم أفاد «قصر الإليزيه» بأن ماكرون سيتحدث إلى المواطنين، مساء الاثنين المقبل، لشرح خططه المستقبلية والمهمات المطلوبة من الحكومة في الأسابيع والأشهر المقبلة. وقبل ذلك، سيعمد ماكرون إلى الاجتماع بمسؤولي الأحزاب المساندة للحكومة في البرلمان وكبار مسؤولي حزبه المسمى «النهضة».
ليس حراك الشارع هو الرد الوحيد؛ ذلك أن مجموعة من نواب اليسار والخضر قدمت التماساً ثانياً للمجلس الدستوري بشأن إجراء استفتاء شعبي تداركت فيه النواقص التي وردت في الالتماس الأول. وأمس، أفاد متحدث باسم المجلس بأن الأخير سوف يكشف عن قراره في الثالث من مايو المقبل. لكن الرأي الغالب أن الهيئة الدستورية العليا التي لم تأخذ بعين الاعتبار الحجج التي قدمها المعترضون على القانون وهي، وفق أكثر من متخصص في القانون الدستوري، وجيهة، يرجح رفضها للالتماس الثاني.
ثمة رهانان متلازمان اليوم في فرنسا: الأول، حكومي وعنوانه أن التعبئة الشعبية سوف تتراجع وأن العمل بالقانون الجديد سوف يبدأ في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، وأن مصادقة المجلس الدستوري عليه تُعدّ الحلقة الأخيرة من مساره القانوني والديمقراطي. وبالمقابل، فإن الرافضين يعتبرون أن المعركة، وإن انتهت قانونياً ودستورياً، إلا أنها لم تنتهِ سياسياً وشعبياً، وبالتالي فإن المعارضة من اليمين واليسار في الندوة البرلمانية وفي الشارع ستعمل على مراكمة الصعوبات بوجه السلطة التنفيذية التي تفتقر للأكثرية المطلقة في مجلس النواب.
وقال أمين عام الحزب الاشتراكي، أوليفيه فور، اليوم، إن ما أقدم عليه ماكرون «احتقار» في التعامل مع الفرنسيين، فيما وصف النائب عن حزب «فرنسا المتمردة» فرنسوا روفين ما جرى بأنه «عملية سطو ديمقراطية». وسعت رئيسة الحكومة اليزابيت بورن إلى التخفيف من وقع ما جرى في الساعات الماضية على النقابات التي تشعر بأن السلطات لا تأخذ بعين الاعتبار مطالبها بالتأكيد أنه «لا غالب ولا مغلوب». إلا أن أوساطاً قريبة منها رأت أن «جراحاً قد فُتحت، وأن اندمالها سيأخذ كثيراً من الوقت».
ماكرون يستعجل قلب صفحة قانون التقاعد والنقابات تعتبر أن «الكفاح متواصل»
المعركة انتهت قانونياً لكنها ما زالت مفتوحة سياسياً
ماكرون يستعجل قلب صفحة قانون التقاعد والنقابات تعتبر أن «الكفاح متواصل»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة