يبدأ فيلم أندريه تاركوفسكي «مرآة» (1975) بمشهد مصمم بعناية لامرأة تجلس على سور خشبي تراقب السهل الممتد أمامها. نراها من الخلف كما لو كنا في منزلها ننظر إليها من النافذة. الكاميرا تدور حولها لتكشف المشهد الجميل لمروج تتمايل قليلاً بفعل الريح. من عمق المشهد يتقدم رجل عبر السهل صاعداً باتجاه المرأة. من خارج اللقطة نسمع صوت رجل أليكسي. هذا صوت ابن المرأة وهو يتذكر ما نراه. سنشاهده صبياً بعد قليل وسندرك أن صوته آت من بعد سنوات لاحقة مما نراه. يقول الصوت إنه أعتاد أن يراقب الرجال القادمين من بعيد، فلو استدار أحدهم عند الشجرة البعيدة صاعداً باتجاه المنزل فإن هذا لا بد أن يكون والده العائد من جبهات القتال، لكن لو تابع سيره مستقيماً فذلك ليس هو. الرجل الذي نتابعه يستدير حول الشجرة ويصعد باتجاه المنزل لكنه ليس والد أليكسي. هي خيبة التوق إلى الأب الغائب الذي حتى حين يعود لا نراه، بل نشعر بوجوده ونسمع صوته. هي تلك الخيبة ذاتها تستولد غياب الأب حتى في حضوره. والدة أليكسي، تلك المرأة الجالسة على خشب السور، تبدو في ذاكرة الصبي امرأة شابة على حافة الانكسار بين غياب الزوج والوحدة والقلق. امرأة منهكة من وجودها الذي تخشى الآتي منه. فهي حين تقترب، لاحقاً، من النافذة لتتابع هطول المطر نرى انعكاس وجهها على الزجاج. لكنه ليس وجهها، بل وجه آخر مُتعَب لامرأة مسنة. هل هي ناتاليا زوجة أليكسي؟ أم ماريا والدته؟ لقد اختلط الأمر في ذاكرة أليكسي وقد بات الآن رجلاً يحتضر. والدة أليكسي لم تستطع أن تبني جسور اتصال مع ابنها حتى حين أصبح رجلاً. على الهاتف يسألها إن كانت تذكر حريق المخزن قرب منزلهم في الريف. تسأله ما الذي ذكـّرهُ بذلك. هي لا تـُدرك أن ذلك الحريق كان رمزاً ربما لآخر عهد أليكسي بالبراءة. سنرى الحريق يلتهم المخزن. مُهيب ولو من على بعد. سنتابعه كما لو كان يقع قربنا ثم سيلجأ المخرج إلى مشاهد داخل المنزل وقد تآكل بفعل ذكرياته وآلامه. لم تكن من عادة المخرج تاركوفسكي الاكتراث بالسياق المنطقي للأحداث ولا بتسلسل الزمن الواقعي. هو سيّد زمنه وذاكرته. في أفلامه حمل الزمن معنى مختلفاً. هو ليس مجرد وقت. بل هو تلك المسافة الغامضة حيث تخلق الروح ذاكرتها الشعرية. للتمتع بهذا الفيلم علينا تحرير الذات من مفهوم الزمن الفيزيائي. الماضي يتدفق في الحاضر دون حواجز وكلاهما يخلقان بتداخلهما ذاكرة الروح أو روح الذاكرة.
بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ
يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.
لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.
الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.
في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟
هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.
* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».
THE WRESTLER ★★
* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).
يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.
هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.
يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.
* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».
ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★
* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).
قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).
نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.
اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.
* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»
★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز