«إلِك يا بعلبك».. تحية وطنية جامعة لـ«مدينة الشمس»

افتتاح حافل لـ«مهرجانات بعلبك الدولية» وسط إجراءات أمنية مشددة

من حفل افتتاح مهرجان بعلبك الذي اعتمد على أعمال شعرية لألمع الكتاب اللبنانيين بالعربية والفرنسية مغناة بألحان أشهر المؤلفين الموسيقيين، و جانب آخر من حفل افتتاح المهرجان.
من حفل افتتاح مهرجان بعلبك الذي اعتمد على أعمال شعرية لألمع الكتاب اللبنانيين بالعربية والفرنسية مغناة بألحان أشهر المؤلفين الموسيقيين، و جانب آخر من حفل افتتاح المهرجان.
TT

«إلِك يا بعلبك».. تحية وطنية جامعة لـ«مدينة الشمس»

من حفل افتتاح مهرجان بعلبك الذي اعتمد على أعمال شعرية لألمع الكتاب اللبنانيين بالعربية والفرنسية مغناة بألحان أشهر المؤلفين الموسيقيين، و جانب آخر من حفل افتتاح المهرجان.
من حفل افتتاح مهرجان بعلبك الذي اعتمد على أعمال شعرية لألمع الكتاب اللبنانيين بالعربية والفرنسية مغناة بألحان أشهر المؤلفين الموسيقيين، و جانب آخر من حفل افتتاح المهرجان.

زحف الآلاف يوم أول من أمس إلى بعلبك، للاحتفال بعودة المهرجانات إلى حضن القلعة الرومانية المهابة، بعد سنتين من الغياب، بسبب الأحداث الأمنية في عرسال، وعلى الحدود اللبنانية السورية، حيث كانت الحفلات أثناءها تقام في الضاحية الشمالية لبيروت.
ووسط إجراءات أمنية مشددة للغاية، وإغلاق للطرقات المؤدية إلى مكان المهرجان، وإضاءة للطرقات، عبر الجمهور سيرًا على الأقدام، خاضعا لتفتيش يتلوه آخر، قبل أن يبدأ الاحتفال الذي تقرر أن يكون تحية إلى بعلبك التي ظلمت وصبرت وانتظرت، ونالت ما تمنت. سنة ونصف ولجنة المهرجانات تحضّر لهذا العمل الافتتاحي الكبير، الذي اعتمد على أعمال شعرية لألمع الكتاب اللبنانيين، بالعربية والفرنسية، مغناة بألحان أشهر المؤلفين الموسيقيين في البلد الصغير. فنانون يقدم كل منهم على طريقته حبه لمدينة الشمس، ويروي علاقته بها، منهم من رحل وانتقيت نصوصه من كتبه، ومنهم من لا يزال حيًا، ووضع كلماته خصيصًا لهذه المناسبة.
جلس أعضاء الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، بكامل عدتهم على المسرح أمام أدراج معبد باخوس، يقودهم المايسترو هاروت فازليان، «يا بعلبك عمود واحد منك بيكفيني ليشع منه النور. هذا جوبتير واقف قبالنا بيلتمع وباخوس سهران عم يحتفي فينا» يصدح الممثل رفيق علي أحمد، بالعامية، ناقلا للحضور ما قاله الشاعر خليل مطران ذات يوم بالفصحى. ومن ثم يبدأ عرض لصور مختارة من مجد المهرجانات التي بلغت ستينها، وضيوفها العالميين الذي جاءوا بكل مواهبهم ذات يوم ليقفوا في هذا المكان المهاب، تضاف إليهم أسماء لبنانية عبرت، من صباح إلى منصور وعاصي الرحباني وفيروز ووديع الصافي. صور تتالى على وقع موسيقى ناجي حكيم، وتنعكس على خلفية المسرح، ينقصها الوضوح. ولولا شاشة جانبية لكان من الصعب تمييز الوجوه والشخصيات.
أعمال لشعراء وموسيقيين تتالى، كل منهم أنجز الجزء الخاص به، ليجد مكانه ضمن هذه الأمسية الخاصة جدًا، والتي أغرت وجذبت.
فاديا طنب، تطل للمرة الأولى على المسرح لتغني «بعلبك» في عمل لغدي الرحباني، ويتوالى بعدها أداؤها مع رفيق علي أحمد. هكذا نستمع لكلمات شعرية في بعلبك لكتاب بالفرنسية منهم وجدي معوض، وآيتل عدنان، وناديا تويني، وصلاح ستيتية.
وبالعربية كانت قصيدة لأدونيس تحكي عن بعلبك التي هي «أحجارٌ تتناثَر في ظِلِّ الأعمدة، تجلسُ وتقصُّ أحزانَها على الشّمس. وكلَّ ليلةٍ، تتلاقى أصابع الرّيح وقيثاراتُ الوقْت لكي تعزفَ موسيقى الذّاكِرة» داعيا الشاعر هذه المدينة لأن تستمد حياتها من الأساطير.
الشاعر عيسى مخلوف في قصيدته خاطب حجارة بعلبك معتبرًا إياها «نثار الجسدِ المبعثَرِ يَقف قبالتَه جوبيتر مبتسمًا يتمتم: مُقيمونَ هم الذينَ عبَروا وإلاّ كيفَ جاءَ مَن جاءَ بعدَهم؟» ومذكرا أن «الذين يولدونَ ويموتون هم شخصٌ واحدٌ يتكرَّر».
بعض الشعراء فضلوا أن يكونوا على المنصة بأنفسهم ولا يتركوا المهمة للمؤديين، هكذا جاء ابن بعلبك وشاعرها طلال حيدر ليطربنا بقصيدة بالعامية حول «الآلهة الذين نزلوا من عليائهم إلى بعلبك وأقاموا في هياكلها، وصارت لهم مسكنًا» و«الليل الذي يخاطب الصباح طالبًا منه التمهل لأنه سهران بمدينة الشمس». أجاد حيدر وهو يلبس عباءته البعلبكية، كما فعل مارسيل خليفة وهو يؤدي أغنية الحلاج «يا نسيم الريح قولي للرشا، لم يزدني العطر إلا عطشا، لي حبيب حبه وسط الحشا، لو يشأ يمشي على خدي مشا». ومن جميل هذا العمل الفني، تلك المقاطع التي أداها رفيق علي أحمد بالعامية من كتب لجبران، فحضر كتاب «الموسيقى» و«الجبابرة» ومقطع من كتاب «النبي» مأخوذ من الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه وأشرفت عليه سلمى حايك. الموسيقى للعالمي غبريل يارد والنص حول الحب والزواج، المقترن برقص ثنائي أخاذ.
أبدع في افتتاح بعلبك وفي المساحة من الزمن المتاحة له عازف الترومبيت إبراهيم معلوف، تارة منفردًا وتارة برفقة الأوركسترا، وخلفهما دبك لـ«فرقة» المجد البعلبكية تكاد تمايلات راقصيها تشبه خيالات آتية من بعيد. أما زاد ملتقى بموسيقاه التصويرية، فحمل الحاضرين إلى عالم آخر، فيه من العذوبة ما يكفي لتصبح الأنغام مجنحة وطائرة.
لم ترتفع وتيرة الموسيقى عاليًا، ولم نسمع صوتًا لأرجل الدبيكة، بدا هذا الحفل وكأنما هو شيء من العذوبة الرقراقة التي تسير هفهافة إلى منتهاها، دون صخب كبير أو انفعال كثير.
جاءت الموسيقى لتطرب والشعر ليرتفع بسامعيه، والرقص ليبقى مرافقًا للكلمة لا ليغلبها أو يتجاوزها.
هكذا أريد من «إلك يا بعلبك» أن يكون حفلاً للكلمة والنغمة والمشاعر الهادئة المترفعة صوب الحب والتسامح.
وستتوالى الحفلات في القلعة التاريخية في الأيام المقبلة، إذ تغني الفنانة المغاربية الفرنسية صاحبة المواهب والجوائز هندي زهرة مع فرقتها الموسيقية، وكذلك حفل جاز للفنان الكاميروني ريشارد بونا، وحفل للفنانة السورية ميادة الحناوي، إضافة إلى حفل لموسيقى الديسكو والفانك مع فرقة «ثي إيرث ويند أند فاير أكسبيرينس». أما السهرة الأخيرة فهي كلاسيكية وللفرقة الرباعية «كواتيور موديغلياني».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».