نيرودا... هل مات مسموماً؟

50 سنة مرت وموته لا يزال قضية مفتوحة

نيرودا... هل مات مسموماً؟
TT

نيرودا... هل مات مسموماً؟

نيرودا... هل مات مسموماً؟

4 قضاة و3 فرق من الخبراء الدوليين أمضوا ما يزيد على 10 سنين يبحثون عن أسباب وفاة شاعر تشيلي الأكبر، بابلو نيرودا، الذي انطفأ في أحد مستشفيات سانتياغو، بعد 12 يوماً من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال آوغوستو بينوتشيت في 11 سبتمبر (أيلول) عام 1973، وأطاح بالرئيس الاشتراكي سالفادور الليندي.
التقرير الأخير الذي صدر يوم الخميس الماضي عن فريق الخبراء الدوليين المكلفين البحث أسباب الوفاة، والذي أصبح في عهدة القضاء التشيلي المخوّل إصدار الحكم النهائي في هذه القضية، يفيد بأنهم لم يتوصلوا إلى توافق في الآراء. لكن ابن أخي الشاعر، وهو أحد أطراف الادعاء، يقول إنه اطلّع على خلاصة التقرير التي تؤكد أن السمّ كان سبب الوفاة.
عندما تُوفّي نيرودا على سرير بمستشفى سانتا ماريّا، جاء في التقرير الذي صدر عن الأطباء الذين كانوا يعالجونه أن سبب الوفاة انتشار الورم الخبيث الذي كان أصابه في البروستاتا. بعد وفاته، نُقل جثمان نيرودا (وكان اسمه الحقيقي نفتالي ريّس استبدل به اسماً مستعاراً ليرفع الحرج عن والده الذي كان يخجل أن يكون له ابن شاعر) ليُوارى في منزله الأثير الواقع على بُعد 100 كيلومتر من العاصمة، في بلدة إيسلا نيغرا، «الجزيرة السوداء»، التي ليست جزيرة ولا سوداء، بل قصيدة أبدية مطلَّة على المحيط الهادي. وكان قد تولّى نقله إلى المستشفى، ثم من المستشفى إلى المنزل، سائقه مانويل آرايا، برفقة زوجة الشاعر الثالثة ماتيلدي أورّوتيا.
لكن بعد مرور 38 عاماً على وفاة صاحب «20 قصيدة حب وأغنية يائسة» خرج ابن أخي الشاعر عن صمته الطويل ليقول إن نيرودا مات بالسمّ بعد حقنه بمادة مجهولة في المستشفى، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بساعات قليلة. واستناداً إلى ذلك التصريح، على لسان الذي رافق الشاعر في السنوات الأخيرة من حياته، تقدّم الحزب الشيوعي التشيلي، الذي كان نيرودا ينتمي إليه، بدعوى قضائية لفتح تحقيق حول أسباب وفاته، استمرّ 12 عاماً، ومرّ بمراحل عديدة كان آخرها التي انتهت هذا الأسبوع بتصريحات لابن أخيه غير الشقيق، رودولفو ريّس، يؤكد فيها أن نيرودا اغتيل بسلاح بيولوجي.
يستند ريّس في تصريحاته إلى استنتاجات فريق الخبراء بعد التحاليل التي أجريت في الدنمارك وكندا على جرثومة «كلوستريديوم بوتولينوم» الموجودة في أحد أضراس الشاعر، ليتبيّن أنه كان قد تمّ حقنه بها عندما كان لا يزال حيّاً، ثم جرت في الدورة الدموية لتستقرّ في لباب الضرس الذي وقع الاختيار عليه لاعتباره منطقة عقيمة خالية من الجراثيم.
وكان المختبر الكندي قد اختار ضرساً كاملاً وعَظْمة من جمجمة نيرودا، بينما اختار المختبر الدنماركي عظمة الفخذ وأحد أنيابه، وكانت النتيجة في الحالتين أن الشاعر قد حُقن بتلك الجرثومة.
هذه الاستنتاجات التي وردت في التقرير الأولي الذي تسلمته يوم الخميس الماضي القاضية باولا بلازا المكلّفة التحقيق في ظروف وفاة نيرودا، وهي التي دفعت بابن أخيه إلى التأكيد أن السمّ كان سبب الوفاة. لكن هذا التقرير الذي وضعته الطبيبة التشيلية غلوريا راميريز، التي ترأست فريق الخبراء الذين ينتمون إلى 7 جنسيات مختلفة، ليس مُلزِماً بالنسبة للقرار الذي يجب أن تتخذه القاضية، التي لها أن توازن بين آراء الخبراء ومئات الشهادات والسوابق التي يزخر بها ملفّ نيرودا. ومن بين هذه السوابق نتائج التحاليل التي أجراها فريق الخبراء الأول على رفات نيرودا، في عام 2013، عندما تمّ نبش جثته، وأجمعت الآراء على أنه مات بالسرطان، أو تقرير الفريق الثاني من المختصين الدوليين الذين عثروا، عام 2017، على الجرثومة في أحد أضراسه، واستبعدوا أن يكون المرض سبب الوفاة، فضلاً عن أن شهادة الوفاة لم تحدد ذلك السبب. وكان هذا الفريق الأخير قد أجرى فحصاً جنائياً على حزام نيرودا، خلص بنتيجته إلى أن الشاعر لم يكن قد فقد من وزنه عند الوفاة كما كان مفترضاً لو أن الوفاة كانت ناجمة عن انتشار الورم السرطاني.
ومن السوابق الأخرى التي يمكن للقاضية بلازا أن تستند إليها قبل أن تلفظ قرارها، الدراسات العديدة حول عمليات التسميم التي نفّذتها مخابرات ديكتاتورية بينوتشيت العسكرية ضد معارضي النظام بعد وفاة نيرودا، والتي استخدمت فيها غاز «سارين» وجراثيم أخرى سامّة.
وكانت القاضية بلازا قد تسلّمت ملفّ التحقيقات في قضية وفاة نيرودا عام 2020 من القاضي ماريو كارّوزا الذي أمضى 9 سنوات يشرف على البحوث الجنائية وتقارير الخبراء والتحقيقات، قبل تعيينه عضواً في المحكمة العليا مكلّفاً تنسيق قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في تشيلي بعد الانقلاب العسكري. وعندما تسلّم كارّوزا الملفّ، في عام 2011، كان أول قرار اتخذه استعراض الأيام الأخيرة من حياة نيرودا عندما كان في منزله بالجزيرة السوداء، أي قبل نقله إلى المستشفى حيث تُوفي بعد أيام قليلة. ويقول كارّوزا إن المعلومات التي جمعها آنذاك من الأشخاص الذين حقق معهم؛ من أقرباء الشاعر وجيرانه وبعض العمال الذين كانوا يترددون على المنزل، فيها كثير من التناقض حول حالته الصحية، ولم تساعده في الوصول إلى استنتاج حاسم.
لكن المرحلة الثانية من التحقيقات، التي تركّزت على وجود نيرودا في المستشفى حيث فارق الحياة، كشفت أن الطبيب سرجيو درابير الذي كان يشرف على علاجه، والذي توفي العام الماضي، سلّمه، قبل يوم من وفاته، لطبيب آخر ذكره بالاسم وأعطى مواصفاته، لكن التحقيقات والجهود التي بُذلت للعثور عليه باءت جميعها بالفشل. وينقل محامي درابير عنه أنه لم يكن قد رأى الطبيب المذكور من قبل، لكنه لم يكترث يومها للأمر، لأن البلاد كانت تعيش فترة مضطربة جداً، بعد أيام من الانقلاب العسكري. وكان كارّوزا قد خلص في تقريره الثاني والأخير إلى أن «المؤكد هو حقن نيرودا قبل يوم من وفاته، لكن من غير تحديد المادة التي حُقِن بها».
أما المرحلة الثالثة من التحقيقات التي انتهت هذا الأسبوع، واستندت إلى البحوث المخبرية التي قام بها فريق المختصين الدوليين؛ فقد أصبحت نتائجها في عهدة القاضية بلازا التي يعود لها لفظ الحكم النهائي حول الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى وفاة الشاعر الذي كان دائماً مثيراً للجدل في حياته، كما هو اليوم بعد مماته. لكن أيّاً كانت تلك الأسباب؛ ورماً خبيثاً أو سمّاً حقنه به أعداؤه السياسيون، فهي لن تقوى على قصائده الشاهقة التي وصفها غارسيا ماركيز بالمستحيلة، والتي ستبقى حيّة إلى الأبد.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تعزيزاً للتواصل مع المقيمين... العاصمة السعودية تحتضن «أيام بنغلاديش»

فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
TT

تعزيزاً للتواصل مع المقيمين... العاصمة السعودية تحتضن «أيام بنغلاديش»

فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)

تقام «أيام بنغلاديش» في حديقة السويدي بالعاصمة السعودية الرياض، والتي انطلقت لياليها، الثلاثاء، ضمن مبادرة تعزيز التواصل مع المقيمين التي أطلقتها وزارة الإعلام السعودية، بالشراكة مع الهيئة العامة للترفيه، تحت شعار «انسجام عالمي»، وتستمر حتى السبت، بهدف تعزيز التواصل الثقافي بين المجتمع السعودي والمقيمين، وإبراز التنوع الثقافي الغني الذي تحتضنه السعودية.

وتشهد الفعاليات عروضاً فنية متنوعة تقدمها الفرقة الشعبية، حيث تألق المشاركون بتقديم عروض موسيقية واستعراضية تمثل مختلف ألوان الفلكلور البنغالي، إلى جانب أغنيات مستوحاة من أعمال أبرز شعراء بنغلاديش.

عروض موسيقية واستعراضية تمثل مختلف ألوان الفلكلور البنغالي (الشرق الأوسط)

كما يضم الحدث منطقة مخصصة لعرض التراث البنغالي، حيث تُتيح للزوار فرصة استكشاف الجوانب الغنية للثقافة البنغالية عن قرب؛ إذ تشمل المنطقة معروضات للأزياء التقليدية المزينة بالزخارف اليدوية التي تعكس المهارة الحرفية والفنية المتميزة، حيث يتم عرض الساري البنغالي المصنوع من أقمشة الحرير والقطن الفاخرة، إضافة إلى الملابس التقليدية للرجال مثل البنجابي والدوتي، كما تعرض الإكسسوارات اليدوية التي تشتهر بها بنغلاديش، بما في ذلك المجوهرات التقليدية المصنوعة من المعادن والأحجار الكريمة، والحقائب والمطرزات التي تعكس ذوقاً فنياً عريقاً.

الفعاليات شملت استكشاف التراث البنغالي (الشرق الأوسط)

واشتملت الفعاليات على قسم مخصص للأطعمة من بنغلاديش؛ إذ يٌقدم للزوار فرصة تذوق أشهى الأطباق التقليدية التي تمثل المطبخ البنغالي المعروف بنكهاته الغنية وتوابله المميزة، وتشمل الأطباق المقدمة أكلات شهيرة مثل البرياني البنغالي، والداكا كاكوري كباب، وسمك الهيلشا المطهو بطرق تراثية، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الحلويات التقليدية مثل الروشا غولا والميزان لادّو.

وتضيف هذه المنطقة بعداً مميزاً للفعالية، حيث لا تقتصر التجربة على الفنون والعروض، بل تمتد لتشمل استكشاف التراث البنغالي بشكل متكامل يعكس الحياة اليومية والعادات والتقاليد، مما يجعلها تجربة غنية تُثري التفاعل الثقافي بين الزوار.

معروضات للأزياء التقليدية (الشرق الأوسط)

وحظيت الفعاليات منذ انطلاقها بإقبال واسع من الزوار الذين عبروا عن إعجابهم بجمال الفلكلور البنغالي وتنوع العروض الفنية المقدمة، كما أبدى العديد من الحاضرين تقديرهم لهذه المبادرات التي تسهم في تعزيز التفاهم والتفاعل بين الثقافات.

وأكّد المسؤولون أن هذه المبادرة تأتي جزءاً من سلسلة برامج ثقافية تهدف إلى تعزيز المشهد الثقافي في المملكة، بما يتماشى مع «رؤية السعودية 2030» التي تدعم التنوع والانفتاح الثقافي.