إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

درّة أندرلان

لا يستعجل الصحافي شارل أندرلان مقابلة السفراء الفرنسيين الذين يباشرون العمل في تل أبيب. إن السفير المُعيّن حديثًا هو من يتلهف لزيارة مراسل القناة الفرنسية الثانية لتقديم أوراق اعتماده. وبعد ثلاثين عامًا من التغطية الرصينة والشجاعة، يغادر أندرلان مكتبه في القدس وفي نفسه شيء من حتى. لقد بلغ السبعين، وهي ليست بالسن التي يستأذن فيها أصحاب الخبرة بالانصراف، لكن جهات دفعته إلى التقاعد دفعًا. هل يأخذ الصحافي دفتر هواتفه معه، وهو يودّع الوظيفة منتصف الشهر المقبل، أم يترك أثمن منجم للأسماء والعناوين والمصادر في عهدة الزميل الشاب الذي سيحل محله؟
طوال ثلاثة عقود، أدى شارل أندرلان واجبه بأفضل ما استطاع. وقد حفظ المشاهدون نبرة صوته وهدوء ملامحه حتى وهو ينقل أكثر الحروب ضراوة. وشهد له رؤساؤه بأنه الصحافي القدير المناسب في المكان المناسب. إلى أن كان ذلك اليوم الأخير من سبتمبر (أيلول) 2000. ففي نشرة الثامنة مساء بث التلفزيون الفرنسي الرسمي رسالة مصورة بعث بها مراسله في الأراضي المحتلة عن وقائع مقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرّة. ومن باريس طار المشهد الرهيب إلى كل وسائل الإعلام في العالم. صبي في الثانية عشرة، جريح برصاص جنود إسرائيليين، يحتضر ويموت «على الهواء» لائذًا بحضن أب هزيل يلوّح طالبًا الأمان. صار الشهيد الصغير رمزًا للمأساة الفلسطينية وعنوانًا لقوة الصورة في مواجهة جرائم الاحتلال.
قامت قيامة ماكنة الدعاية الصهيونية ضد الصحافي شارل أندرلان ورفيقه المصور التلفزيوني الفلسطيني طلال أبو رحمة. وتطوعت جهات خارجية لملاحقة المراسل الفرنسي واتهامه بأنه فبرك الفيلم كله، بل زعموا أن محمد الدرّة لم يمت، وإذا مات فبنيران أهله لا رصاص العدو. وفي عز تلك المعمعة دارت في أوساط الصحافيين في فرنسا ورقة لجمع التواقيع على طلب بسحب البطاقة الصحافية من أندرلان، تمهيدًا لحرمانه من ممارسة المهنة. وبدأت حملة حقيقية من حملات مطاردة السَحَرة تشبه ما كان يجري في عصور الظلام. لكنه واجهها بشجاعة ورفض مجرد التفاوض حول بيان يلقي الشكوك حول حقيقة ما حدث في ذلك النهار، على مدخل غزة. قال أندرلان: «لن أسحب حرفًا ولا حتى فاصلة من كلامي في ذلك التقرير».
خاض الصحافي، ومن ورائه القناة الثانية، المعركة القضائية حتى النهاية. مسلسل طويل من إجراءات التحقيق الميداني والعسكري والفني وجمع الأدلة وانتداب الخبراء تقلبت القضية، خلاله، ما بين محاكم الابتداء والاستئناف والنقض. وبعد سنتين صدر قرار محكمة التمييز لصالح المراسل. هلّل العرب وصاحوا «يحيا العدل» وعربدت الأوساط المؤيدة لإسرائيل. لكن حياة شارل أندرلان بعد قضية الدرّة لم تعد مثلما كانت عليه قبلها. بدأ يتلقى تهديدات كثيرة. وقاطعته مصادر أخباره. وسُدّ بوجهه كثير من المرافق الرسمية. لكن أكثر ما آلمه أن بعض الجيران والمارة كانوا يشتمون زوجته وأبناءه في الشوارع والأماكن العامة. وحين طلب المراسل القديم نقله إلى مكتب واشنطن، العاصمة الأكثر رحابة، قوبل طلبه بالرفض. ماذا يفعل في القدس وأي أحداث يغطّي؟ لقد بهتت أخبار الصراع العربي الإسرائيلي منذ أن احتل الدواعش صدارة المشهد التلفزيوني.
مات محمد الدرّة وعاش محمد الدرّة. والثاني هو الطفل الذي رزق به الأب بعد «استشهاد» الأول. وها هو يبلغ العمر ذاته الذي كان عليه أخوه يوم «استشهاده». إنه يشبهه تمامًا في الشكل والحركات والصوت «كأنه نسخة منه»، كما أخبرني الأب جمال الدرّة، هاتفيًا، أمس، وأنا أسأله عن أخبار قضيته. إن لوالد محمد الدرّة قضية أمام محاكم باريس مثل شارل أندرلان. وهو يقول إنه كان يثق في القضاء الفرنسي ثقة عمياء لكن المحكمة خذلته ولم تحكم لصالحه. لقد واجه تهمة التزييف وادعاء الإصابة في المشاهد التي بثها تقرير القناة الفرنسية. «قالوا إن الفيلم كله تمثيل في تمثيل رغم أن الحقيقة واضحة كالشمس».
تمنى جمال الدرّة لو يلتقي شارل أندرلان لكي يشدّ على يده ويشكره ويدعوه لزيارتهم في غزة وشرب الشاي في بيتهم. لكن هيهات والاحتلال لا يسمح له بأن يضع قدمًا في القدس. وهو قد تابع عبر التلفزيون و«فيسبوك» أخبار المتاعب التي واجهها الصحافي الفرنسي، وتأسف لانتهاء خدمته وإحالته على التقاعد، وحمّلنا وصية: «أمانة.. اللي يشوف هذا الآدمي يسلم لي عليه».