مكتبة ميونيخ.. 4400 مخطوطة إسلامية و175 مصحفًا نادرًا

جمعها ملوك بافاريا وأمراؤها ورهبان أديرتها منذ قرون طويلة

نموذجان من مخطوطات إسلامية
نموذجان من مخطوطات إسلامية
TT

مكتبة ميونيخ.. 4400 مخطوطة إسلامية و175 مصحفًا نادرًا

نموذجان من مخطوطات إسلامية
نموذجان من مخطوطات إسلامية

تفتخر بافاريا بمكتبتها (مكتبة الدولة البافارية) العريقة الموجودة في عاصمتها ميونيخ التي تُعتبر اليوم إحدى أشهر وأقدم المكتبات وأهم المراكز البحثية في العالم؛ فهي تحتوي على 10 ملايين كتاب ومجلد وأكثر من 60 ألف صحيفة ومجلة ومطبوعة من معظم اللغات من اللاتينية والصينية وحتى العربية والآرامية والعبرية والمنغولية والعبرية والأرمنية، تعود إلى القرون الماضية، إضافة إلى أكثر من 95 ألف مخطوطة تاريخية نادرة.
وتفتخر المكتبة بمجموعتها المهمة المؤلفة من الأجزاء والصفحات النفيسة من القرآن الكريم ومخطوطات عربية أخرى. ولندرة ما تملكه هذه المكتبة فإن إدارتها تقيم بين الحين والآخر معارض لعرضها يأتي لمشاهدتها زوار من كل أنحاء العالم، وبالأخص المهتمون بالشؤون الشرقية والفنون الإسلامية والدين الإسلامي، الذين يشاركون أيضا في محاضرات وندوات تقام في المكتبة.
إلا أن هذا الكم الهائل من الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية بالأخص في هذا المكان يدفع إلى طرح السؤال: كيف أتت هذه المخطوطات النفيسة إلى بافاريا بالذات وليس لها حدود مع أي بلد إسلامي أو شرقي؟
قد يكون الرد غير متوقع، إذ إن كثيرا من هذه المصاحف موجود في المكتبة البافارية منذ قرون طويلة، وكانت تجمع إما على يد أمراء بافاريا أو رهبان الأديرة لسببين؛ الأول بدافع الفضول وحب التعرف على مضمونها وعن الدين الإسلامي، والثاني لقيمتها الفنية؛ إذ إن ملوك بافاريا كانوا يعشقون الفن الرفيع ويظهر ذلك في القصور الموجودة في الولاية البافارية.
ومن بين الذين جمعوا المخطوطات الإسلامية المستشرق الألماني يوهان البرشت فيدمانشتيتر (1506 - 1557م) في عصر النهضة، وكان أكثر انفتاحا على الأفكار الجديدة وثقافات الآخر. وسهلت عليه إجادته للغة العربية دراسة المخطوطات بمنتهى العناية، وألف بعدها كتابا عن القرآن الكريم. وبعد وفاته انتقلت ملكية مكتبته إلى الدوق البرشت الخامس دوق بافاريا لتتحول مكتبته إلى نواة لإنشاء مكتبة الدولة البافارية الحالية.
وعبر عمليات الشراء المتكررة من بلدان وأماكن مختلفة تمكنت المكتبة من امتلاك أكبر ثروة ثقافية وحضارية إنسانية، وأكبر صفقة كانت عام 1858 عندما اشترت الإدارة من المستشرق الفرنسي إتيان كاترومار 1250 مخطوطة إسلامية بخط اليد والكثير من المطبوعات الشرقية والإسلامية، تبع ذلك في القرن التاسع عشر شراؤها مجموعات مستشرقين منهم ماركوس يوزيف مولر ومارتين هوغ والإيطالي جيوزيب كابورتي الذي عرف بجولاته في اليمن.
وأضيف إلى ما كان في المكتبة ما جمعه أيضا الرهبان في كثير من الأديرة البافارية بهدف دراسة الأديان الأخرى، منها مخطوطات إسلامية مكتوبة بخط اليد. وأخذت المكتبة شكلها الرسمي في ثلاثينات القرن العشرين مع شراء كارل داكس مدير قسم المخطوطات فيها آنذاك لعدد كبير من المخطوطات التي انتقاها بنفسه من مختلف البلدان والمناطق والحقب الزمنية إما بالشراء مباشرة أو في مزادات علنية، أي أن كل مشتريات المكتبة كانت قد تمت بشكل شرعي ورسمي.
وفي الثلث الأخير من القرن نفسه أكملت الإدارة ما لديها بشراء أعداد من القرآن الكريم ومخطوطات شرقية لا تقل ندرة عن سابقاتها، وأيضا أناجيل شرقية طبعت في أديرة بلبنان، ما جعل المكتبة البافارية اليوم الجهة الأكثر امتلاكا تقريبا للمخطوطات القديمة أيضا المكتوبة بخط اليد من الشرقين الأدنى والأقصى.
ومن المعروضات الإسلامية التي تعتبر أيضا نادرة 130 مصحفا مكتوبة بخط اليد تعود إلى الفترة ما بين القرن التاسع والقرن التاسع عشر، حيث حلت آلة الطبع محل الكتابة باليد، ما يدفع إدارة المكتبة إلى الاعتقاد بأن المخطوطات ونسخ القرآن الكريم التي لديها أهم المجموعات الموجودة خارج العالم الإسلامي.
وأهم مخطوطة وأندرها لدى المكتبة هي تلك التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي مكتوبة بالخط الكوفي القديم، ويرجح أن تكون سورية المنشأ.
وإلى جانب هذه المخطوطة توجد نسخ مصاحف ما زالت محافظة على جمالها، بعضها مكتوب بماء الذهب ومنشؤها إيران وأنجزت في القرن الحادي عشر الميلادي، إضافة إلى غلاف مخطوطة من أواخر القرن الثامن عشر مزين بزخارف على شكل أزهار رسمت في الهند أو إيران.
وتحمل الصفحة الأولى المزخرفة لنسخة من القرآن الكريم نموذجا أندلسيا من القرنين الثاني عشر والثالث عشر يظهر دقة الرسوم وجمال الألوان المختارة بعناية فائقة. وهناك أيضا غلاف أحد المصاحف بقياس صغير ومكتوب بخط اليد عام 1870 ومزخرف بأزهار ونباتات.
ولم يتبق من بعض المصاحف القديمة جدا سوى صفحات، منها نسخة محفوظة بعناية فائقة كتبت على الرقوق الجلدية عندما لم يكن هناك ورق.
وتعد المصاحف الأندلسية من النسخ النادرة أيضا، إذ إن معظم المصاحف التي أنجزت وكتبت في إسبانيا الإسلامية تم إتلافها بعد استعادة المسيحيين لإسبانيا نهاية القرن الخامس عشر، وتمكن مسلمون من تهريب بعضها، وهي تتميز بالزخرفة الخاصة للصفحات الأولى والأخيرة، وقياسها غير المألوف الذي يصل إلى المربع. ومن المصاحف المزينة بشكل فني تلك المكتوبة في شبه الجزيرة الأيبيرية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وتعتبر مميزة لزخرفتها الدقيقة غير العادية.
هذا الكم الكبير من المخطوطات النادرة التي كتبت في عصور وأماكن مختلفة توفر اليوم الإمكانية للاطلاع ليس فقط على مضمونها، بل أيضا على تطور فن التخطيط والزخرفة الإسلامية عبر الكثير من العصور، وهذا يعود بالفائدة على المهتمين بالفنون الإسلامية أيضا عندما يجرون بحوثا ودراسات عنها. ولقد دفع الاهتمام والإقبال الشديدان على المكتبة بإدارتها إلى تحويلها إلى مكتبة إلكترونية يمكن الدخول إليها عبر الإنترنت، كما يمكن للباحثين أيضا العرب المهتمين بتاريخ المخطوطات الإسلامية والشرقية طلب أفلام مصغرة (ميكروفيلم) للنسخ الأصلية.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.