بعد 12 سنة على نهاية ولايته الرئاسية الثانية، يعود لويس إيناسيو «لولا» دا سيلفا، مطلع العام المقبل إلى قصر الفورادا، مقر رئيس جمهورية البرازيل، وذلك إثر فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الأخيرة التي نال فيها نحو 51% من الأصوات مقابل نحو 49% لمنافسه الرئيس الحالي اليميني المتطرف جاير بولسونارو. ولقد حصل حزب العمّال الذي يتزعمه «لولا» على 13.3 مليون صوت، أكثر مما جمعه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2018، في حين لم يجمع بولسونارو أكثر من 400 ألف صوت، أكثر من الانتخابات السابقة. تُعد عودة «لولا» إلى الحكم، وهو أول رئيس يفوز بولاية ثالثة في تاريخ البرازيل، بمثابة بداية عصر جديد يقتضي إعادة ترميم هذا البلد الذي يعاني من شرخ سياسي واجتماعي عميق، ويُلقي بمسؤولية ضخمة على عاتق هذا الزعيم اليساري الذي تجاوز السابعة والسبعين من عمره، وتعافى من مرض السرطان وأمضى سنة ونصف السنة في السجن بعد إدانته بتهمة الفساد التي برّأته منها لاحقاً المحكمة الدستورية وأعادت إليه حقوقه السياسية التي كان حرمانه منها قد منعه من خوض الانتخابات السابقة التي فاز بها بولسونارو. وبعد أربع سنوات من الاستقطاب الممنهج الذي اتسمت به ولاية الرئيس السابق اليميني المتطرف، وما نجم عنه من تدهور للمؤسسات الديمقراطية وتهميش للسلطات القضائية وتحقير للأقليات وترويج لاستخدام الأسلحة الفردية، تقع الآن على عاتق «لولا» مهمة ترميم التعايش في بلد يزيد عدد سكانه على 214 مليوناً، واستعادة القيم التي انهارت، وتجاوز الانقسام الحاد الذي أظهرته نتائج الانتخابات الذي يهدد بتعطيل السياسات الإصلاحية في المستقبل.
يقول فرناندو مورايس، صديق الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو «لولا» دا سيلفا وكاتب سيرته، إن الأخير أمضى العقود الثلاثة المنصرمة من حياته يتنفسّ السياسة ولا يمارس أي نشاط غيرها. وهي الوقود الذي يحرّك هذا الرجل الذي خاض كل المعارك، ونهض من موت سياسي سريري، ليعود ويمسك بزمام القوة الاقتصادية والديمغرافية في أميركا اللاتينية، بعدما سبق وحكمها في العام 2003 ثم في العام 2010.
كان ضرباً من الخيال تصوّر المشهد الذي تعيشه البرازيل اليوم، عندما كان «لولا»، الذي بدأ يعمل منذ صباه في مصنع للصلب قبل أن يصبح زعيماً نقابياً ويؤسس حزب العمّال، مجرد جثّة سياسية منذ أربع سنوات. إذ أُدخل السجن قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية التي فاز بها المرشح اليميني المتطرف جاير بولسونارو الذي يحنّ إلى عهد الديكتاتورية العسكرية... التي أمضى «لولا» في سجونها فترات عندما كان زعيماً نقابياً يقود المظاهرات المطالبة بحقوق العمال.
- رجل دخل التاريخ
دخل «لولا» التاريخ البرازيلي في العام 2003 عندما أصبح أول عامل يصعد إلى سدّة الرئاسة في بلد طبقيّ بامتياز وموصوف بالفوارق الاجتماعية الحادة. ولقد تحوّل بالنسبة لبعض مواطنيه إلى بطل قومي أنهض عشرات الملايين من براثن الجوع والفقر وأعطاهم فرصاً لم يكن آباؤهم يحلمون بها، في حين رأى فيه آخرون زعيماً لعصابة نهبت المال العام من عائدات شركة النفط الوطنية ومُداناً محكوماً عليه بالسجن عشرين شهراً قبل أن تلغي المحكمة العليا الحكم الصادر بحقه.
منذ ثلاثة عقود يتصدّر «لولا» المشهد السياسي البرازيلي الذي يدور حوله باستمرار. ولا ينكر له أحد قدراته الخارقة على التفاوض، وبراعته في التواصل مع الجماهير، ووقوفه دائماً إلى جانب المهمّشين والكادحين. ويؤكد الذين رافقوه على مقاعد الدراسة، أنه كان متفوقاً في التعبير الشفوي والخطّي مع أنه لم يكن في عداد الناجحين دائماً.
شارك «لولا» خلال النصف الأول من سبعينات القرن الفائت في الحركة التأسيسية لحزب العمال البرازيلي، التي كانت تضمّ مجموعة متباينة المشارب من معارضي النظام العسكري، يتراوح أعضاؤها بين قادة نقابيين ومثقفين يساريين وناشطين كاثوليكيين من تيّار لاهوت التحرّر.
كانت تلك الحركة تسعى إلى التمايز عن التيارات النقابية الرسمية، في الوقت الذي كانت تحاول أيضاً تطبيق نمط جديد من الاشتراكية الديمقراطية يختلف جذريّاً عن النموذجين السوفياتي والصيني اللذين كانا قد دخلا مرحلة الأفول والانهيار.
من النقابة إلى الرئاسة
في أواسط الثمانينات تولّى «لولا» قيادة نقابة عمّال الصلب، وكان أحد المخططين البارزين للإضرابات الكبرى إبان الحكم العسكري، التي كان لها كبير الأثر في تسريع سقوط النظام. وبعدما فشلت محاولاته الثلاث المتتالية للوصول إلى الرئاسة منذ العام 1989. تمكّن في العام 2002 من الفوز بالانتخابات الرئاسية، ثم جدّد ولايته في الانتخابات التالية عندما كان في ذروة شعبيته التي حطمّت كل الأرقام القياسية في تاريخ البرازيل. وخلال السنوات الثماني التي أمضاها في الرئاسة، أجرى إصلاحات وتغييرات جذرية أحدثت تحولاً اجتماعياً واقتصادياً عميقاً ضاعف الناتج المحلي ثلاث مرات، ورفع البرازيل إلى مرتبة القوة الاقتصادية السادسة في العالم.
المراقبون يُجمعون على أن السياسات التي انتهجتها حكومات «لولا» لعبت الدور الأساسي في النهضة الاقتصادية البرازيلية، وحققت إنجازات مشهودة في مجال الحد من الفقر والجوع استفاد منها أكثر من ربع سكان البلاد. وعلى الصعيد الدولي كان له دور بارز في التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، وفي إبرام الاتفاقية الدولية لتغيّر المناخ. وعند نهاية ولايته الرئاسية الثانية كانت شعبيته تتجاوز 80% بين السكان، إلا أنها بدأت تتراجع في العام 2016 بعد انفجار قضية الفساد حول شركة النفط الوطنية «بتروبراز» التي طالت عدداً كبيراً من أعضاء حزب العمال وأدّت إلى صدور حكم بسجنه لمدة تسع سنوات وستة أشهر، وكانت تلك أول مرة يُحكَم فيها على رئيس برازيلي بالسجن بتهمة الفساد.
وحقاً، في أبريل (نيسان) 2018 أُدخل «لولا» السجن حيث أمضى 580 يوماً، ومنعه ذلك العام من الترشح للانتخابات الرئاسية التي فاز بها بولسونارو، الذي عيّن القاضي سيرجيو مورو، الذي كان قد أصدر الحكم بسجن «لولا»، وزيراً للعدل في حكومته الأولى قبل أن يختلف معه ويقدم مورو استقالته. وبعدها، في أواخر العام 2019 صدر قرار قضائي بالإفراج عن «لولا»، ثم أصدرت المحكمة العليا قراراً في مارس (آذار) من العام التالي يلغي جميع الأحكام الصادرة بحقه على أساس أن القاضي مورو لم يكن يتمتع بالصلاحيات التي تخوّله النظر بالجرائم المنسوبة إليه.
- النشأة وبداية المسيرة
نشأ «لولا» في كنف أسرة من الفلاحين، صغيراً لسبعة أشقاء، في إحدى قرى الريف الصغيرة التي هاجرها والده بُعيد ولادته إلى مدينة ساو باولو ليعمل حمّالاَ في المرفأ. والحقيقة أن «لولا» لم يعرف والده حتى بلوغه الخامسة، وقد وصفه في سيرته الذاتية بأنه «كان بئراً من الجهل ومدمناً على الخمر».
في العام 1956 وبعد رحلة شاقة طالت ثلاثة عشر يوماً مع والدته وإخوته في شاحنة زراعية، استقرّت العائلة في ساو باولو حيث بدأ بالعمل ماسح أحذية وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره. ثم انتقل بعدها ليعمل مساعداً في مصبغة قبل أن ينصرف إلى بيع الفواكه على عربة نقّالة.
في الرابعة عشرة غادر «لولا» المدرسة نهائياً ليعمل في مصنع صغير للصلب، حيث تابع دورة دراسة مهنية لثلاث سنوات. في تلك الفترة تفتحت اهتماماته السياسية عندما اعتقلت السلطات العسكرية شقيقه الأكبر، الذي كان منتسباً إلى الحزب الشيوعي، وتعرّض الأخ يومها للتعذيب.
وفي العام 1969 انتُخب «لولا» وشقيقه عضوين في اللجنة التنفيذية لنقابة عمال الصلب، التي أصبح لاحقاً مديراً لقسم الرعاية الاجتماعية فيها قبل أن يُنتخَب رئيساً لها عام 1975 بنسبة 92% من الأصوات. وبعد ثلاث سنوات، أُعيد انتخابه... ليبدأ مرحلة من المواجهة مع النظام العسكري (يومذاك)، تخللتها سلسلة من الإضرابات العامة والمظاهرات الحاشدة في ساو باولو التي طالت إحداها 41 يوماً وشارك فيها أكثر من 300 ألف عامل.
- الفكر الحزبي العملي
في تلك الفترة طرح «لولا» على مجموعة من رفاقه فكرة تأسيس حزب سياسي يكسر المعادلة الثنائية التي كانت سائدة في حينه، ويكون المدافع عن حقوق العمال. وهكذا تأسس حزب العمال البرازيلي في فبراير (شباط) 1980 بدعم من بعض السياسيين والمثقفين اليساريين، وتوجُّه اشتراكي تروتسكي. وفي العام 1986 انتُخب «لولا» عضواً في الجمعية التأسيسية التي قررت استعادة نظام الاقتراع الحر والمباشر لرئيس الجمهورية وإنهاء النظام العسكري.
وفي الانتخابات العامة التي أُجريت ذلك العام، حلّ حزب العمال أولاً بين الأحزاب اليسارية، ليحقق لاحقاً أول انتصار كبير له عندما فاز في الانتخابات البلدية في 36 من المدن الكبرى، من بينها ساو باولو وبورتو آليغري. ولكن في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت عام 1989. خسر «لولا» رهانه الأول في الدورة الثانية بفارق صغير أمام فرناندو كوليور دي ميلو. إلا أنها كانت المرة الأولى في تاريخ البرازيل التي يترشّح فيها للرئاسة زعيم نقابي كان قد طرح في برنامجه خطة لوضع حد أدنى لأجور العمال ومشروعاً للإصلاح الزراعي. ولقد بيّنت تحقيقات صحافية لاحقة أن تلك الانتخابات، التي تضافرت فيها جهود وسائل الإعلام الكبرى وقطاعات المال والأعمال ضد «لولا»، شهدت تزويراً وتخللتها تجاوزات قانونية كثيرة لصالح المرشح اليميني الذي قاد أيضاً حملة تشهير وأضاليل وتلفيقات ضد «لولا»، من بينها تركيب عملية اختطاف لأحد رجال الأعمال المعروفين قبل أسبوع من الانتخابات، ثم تحريره على يد الشرطة، واتهام حزب العمال بتدبير تلك العملية. وأدى انكشاف تلك التجاوزات إلى موجة عارمة من الاحتجاجات في كل أنحاء البلاد شارك فيها أكثر من خمسين مليون برازيلي، وانتهت باستقالة كوليور دي ميلو بنهاية العام 1992 وإحالته إلى المحاكمة. لكن «لولا» عاد ليفشل في ترشحه للرئاسة مرتين في العام 1994 ثم في العام 1998، قبل أن يفوز عام 2002 بولايته الرئاسية الأولى التي عاد وجدّدها في العام 2006.
- دور أمّه المحوري
يقول المقرّبون من «لولا» إن أمه هي الشخصية المحورية في حياته. وهو يذكرها باستمرار في كل المناسبات، وغالباً ما يتحدث في خطاباته عن «تلك المرأة الأميّة والصارمة التي ربّت عائلة من سبعة أولاد، وهي تتعرّض للمهانة وسوء المعاملة من زوجها المدمن على الكحول». ويقول مورايس، صديقه وكاتب سيرته، إن «لولا» يتميّز بحرصه على الاستماع لأكبر عدد ممكن من الآراء قبل أن يتخذ قراره النهائي، ثم إنه يتقن التواصل بعفوية مع بسطاء القوم وكبارهم، ولا مكان عنده للحقد حتى على ألدّ أعدائه، علماً بأن حياته كانت صعبة جداً منذ بداياتها، وفقد زوجته الأولى عند ولادة ابنهما الثالث، كما توفيت زوجته الثانية عندما كان على وشك دخول السجن عام 2018.
ختاماً، عندما تأكد فوزه في الانتخابات الرئاسية يوم الأحد الفائت، خرج «لولا» أمام أنصاره ليقول: «أعدّ نفسي مواطناً قام من الموت. حاولوا دفني حيّاً، لكن ها أنا ذا هنا من جديد... وأعدكم بأن مكافحة الجوع ستكون في طليعة أولوياتي، تليها إعادة البرازيل إلى المسرح الدولي».