كانت بلدة بحمدون محط أنظار السياح العرب، لا سيما أهل الخليج. فمناخها اللطيف في الصيف وشوارعها المزدحمة بالمقاهي والمطاعم، تشكل مجتمعة عنواناً مشهوراً في مجال السياحة.
وإذا ما مررت بإحدى مناطق البلدة، المعروفة بـ«بحمدون المحطة» ستحتار أين تتوقف لترتشف فنجان قهوتك أو تتناول الأكلات اللبنانية الأصيلة.
وفي المقابل، إذا ما رغبت في تناول الحلويات العربية من بوظة (مثلجات) وبقلاوة من أنواع «كول وشكور» و«كنافة» و«بسبوسة» (نمورة)، لا بد أن تقصد محل الحلويات الأشهر فيها «ورد». أما الحلوى التي تتصدر لائحة حلوياته والمعروف فيها فهي «التمرية». هذه الحلوى المشهورة في القرى والبلدات اللبنانية، يجري صنعها وتقديمها في أيام الأعياد والمناسبات الدينية على أنواعها.
تأسس «ورد» في الستينات، فشكل محطة معروفة في حنايا البلدة المذكورة. يقفل أبوابه أيام الشتاء ويفتحها مع قدوم الصيف.
عندما يحدثك أصحابه عن ذكرياتهم أيام لبنان العزّ، يسترجعون أسماء نجوم عرب ولبنانيين كانوا يقصدونه. الراحلان صباح وفريد الأطرش، كذلك فنانون حديثون يتخذون منه محطة دائمة، فيزورونه في كل مرة وطأت أقدامهم المنطقة كالفنانة نانسي عجرم.
تم تأسيس هذا المحل على يد آل دياب الذين توارثوه أباً عن جد، وأولادهم اليوم يكملون المشوار. في وسط الشارع الرئيسي في بحمدون المحطة يقع هذا المحل الذي يستقطب اللبنانيين من كل حدب وصوب. فهنا تجلس عائلة مع أولادها تتذوق بوظة «ورد» المصنوعة من مكونات طبيعية. «لا يزال تحضيرها يتم على الطريقة القديمة يدوياً وتدق في أجران خاصة». يشرح لنا أبو أدهم الذي يعمل في محلات «ورد» منذ نحو 60 عاماً. هناك إلى يمين المحل تجلس سيدتان تتناولان حلوى الـ«كرابيج» الشهية. وتعلق إحداهن لـ«الشرق الأوسط»: «لهذه الحلوى طعم لذيذ جداً هنا. جئنا من صيدا خصيصاً لنزور المنطقة ونعرّج على محلات ورد».
وتلقي نظرة وراء واجهة زجاجية وسط المحل لتكتشف أنواع حلويات عريقة ومعروفة في لبنان. كالـ«صفوف» و«الكرابيج» و«البقلاوة». وتستوقفك عملية صناعة وتحضير حلوى التمرية يدوياً وأمامك مباشرة.
أبو أدهم يتقن صنعها وورث سر مذاقها الممتاز عن والده الذي سبقه في عملية تحضيرها وعجنها. ويروي لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كانت هذه الحلوى تلقب بحلوى الفقراء في الماضي، لأن مكوناتها بسيطة وأقل سعراً من غيرها».
مع الوقت تطورت شهرة هذه الحلوى التي لم تعد صناعتها تقتصر على القرى والبلدات الجبلية، ولا سيما في فصل الشتاء لأنها تؤكل ساخنة. فطالت بيروت ومدناً أخرى بحيث يتم بيعها في خيم خاصة تقام أمام الكنائس، في أعياد القديسين وفي شهر رمضان إلى جانب حلويات المعكرون والمشبّك والـ«عوامات».
وعن مكونات هذه الحلوى يقول «أبو أدهم»: «إنها بسيطة جداً، تتألف من عجينة مصنوعة بالطحين الفرخة وآخر يعرف بـ«طحين إكسترا»، ومن ثم تأتيك مكونات الحشوة المؤلفة من السميد والسكر وماء الزهر وماء الورد والمسكة». ولكن الأهم في هذه العملية كما يقول أبو أدهم هو كيفية قليها. «يجب تغطيسها في كمية زيت كبيرة وطازجة ونظيفة، فيكون مذاقها على المستوى المطلوب».
الوصفة بحسب أبو أدهم تبقى نفسها عند جميع المحلات، ولكن سر تحضيرها يرتبط بأنامل صانعها ونفسه الطيب، وكيفية مدها على قطعة من الرخام الأصلي.
أبو أدهم الذي يعمل في تحضير هذه الحلوى منذ سنوات طويلة عمل على تطويرها. فاستحدث منها حجماً صغيراً، أو ما يسميه «سواريه» وهو كناية عن قطع صغيرة تتناولها بنهم الواحدة تلو الأخرى. «هذه القطع الصغيرة لها زبائنها الخاصون الذين يوصون عليها سلفاً كي تزين موائد العيد أو جلسات دافئة مع الأصدقاء، فيتناولونها كقطع الـ(بونبون) والشوكولاته، ويتم تضييفها في صحن بورسلين، وهي مغمورة ببودة السكر الناعم».
الشاب نيكولا من الجيل الجديد لآل دياب الذين يكملون مشوار الجد والأب، يحدثنا عن ذكريات ترتبط ارتباطاً مباشراً بهذا المحل. «لقد كان مفتوحاً من ناحية الغرب على صالة سينما روكسي في بحمدون. وبدل أن يشتري رواد السينما الفوشار وما شابهه، كانوا يشترون التمرية أو الكرابيج. وكانت شخصيات مشهورة تحب أن تختم مع حلوى المحل مائدة غداء في مطعم حليم المعروف في تقديمه العصافير والمشاوي».
شهد «ورد» حقبة ذهبية من الستينات حتى الثمانينات، ومع تراكم الأزمات وتدهور الأوضاع في لبنان خفتت نسبة رواده. ويعلق نيكولا دياب: «لا نزال حتى اليوم نستقبل في هذا المحل زبائننا القدامى، وبينهم من أورث أولاده وأحفاده حب مذاق حلوياتنا. ولذلك ترين لبنانيين يقصدونه من كل حدب وصوب حتى من طرابلس وعكار ومناطق الجنوب».