النساء وركوب الدراجات الهوائية في إيران.. بين المعارضة والتأييد

70 في المائة لا يجدون مانعا.. لكن ما يتعرضن له من مضايقات هو السبب وراء ضعف الدعم الشعبي

بلدية طهران دشنت أماكن تأجير الدراجات الهوائية للرجال فقط، ولكنها لم تكتب على مدخل المحطات «للرجال فقط»
بلدية طهران دشنت أماكن تأجير الدراجات الهوائية للرجال فقط، ولكنها لم تكتب على مدخل المحطات «للرجال فقط»
TT

النساء وركوب الدراجات الهوائية في إيران.. بين المعارضة والتأييد

بلدية طهران دشنت أماكن تأجير الدراجات الهوائية للرجال فقط، ولكنها لم تكتب على مدخل المحطات «للرجال فقط»
بلدية طهران دشنت أماكن تأجير الدراجات الهوائية للرجال فقط، ولكنها لم تكتب على مدخل المحطات «للرجال فقط»

أظهرت نتائج دراسة حول ركوب النساء الدراجات الهوائية في العاصمة الإيرانية طهران أن أكثر من 70 في المائة من المستطلعة آراؤهم أكدوا أنهم لا يرون أي موانع تحول دون مزاولة النساء هذه الهواية في المدينة، غير أن حظرا غير رسمي يلوح في الأفق.
لا تمنع القوانين الإيرانية النساء من قيادة الدراجات الهوائية ولكن بلدية مدينة طهران تمتنع عن تأجير الدراجات للنساء من الأماكن التي خصصت لها في المدينة. ويقول أحد المواطنين لـ«الشرق الأوسط»: «إذا راجعت امرأة محطات تأجير الدراجات الهوائية لا يجري تسجيلها ضمن اللائحة، ويقولون لها إننا لا نستطيع تسجيل النساء. وبالأحرى إن بلدية طهران دشنت أماكن تأجير الدراجات الهوائية للرجال فقط، ولكنها لم تكتب على مدخل المحطات (للرجال فقط)، وكأن عدم السماح للنساء بتأجير الدراجات الهوائية بات أمرا اعتياديا».
في بعض الأحيان تعطى إرشادات للنساء مثل أن «تستطيع المرأة القدوم إلى محطة تأجير الدراجات الهوائية برفقة شقيقها، أو زوجها، أو أبيها، أو أي رجل آخر بهدف التسجيل لتأجير الدراجة الهوائية، ومن ثم تتولى ركوبها بنفسها».
وقال أحد المسؤولين في شركة بارسا المسؤولة عن مشروع تأجير الدراجات الهوائية في طهران في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «لا تهدف إقامة هذه المحطات إلى غايات ترفيهية، بل هي مخصصة للموظفين الذين ينوون الذهاب إلى العمل، ولذلك لا نقدم خدماتنا للنساء. وبينما تواجه النساء في الوقت الحاضر القيود لتأجير الدراجات الهوائية من هذه المحطات، فإنهن يمارسن هواية ركوب الدراجات الهوائية في المتنزهات المخصصة للنساء».
وردا على سؤال عما إذا كان الوضع مختلفا للنساء الموظفات أجاب المسؤول الإيراني: «لا نقوم بتأجير الدراجات الهوائية للنساء بسبب القوانين المرورية. لقد قمنا في بدايات نشاطاتنا بتزويد النساء بالدراجات الهوائية، غير أننا امتنعنا عن ذلك بسبب ارتفاع نسبة حوادث السير التي تسببت فيها النساء».
إذا كانت أسباب الحظر تكمن في القضايا الدينية – السياسية، أو الأحكام العرفية أو الاجتماعية، فإن النتيجة واحدة وهي عدم تمكن النساء في الوقت الحاضر من التمتع بالتسهيلات التي تقدمها محطات تأجير الدراجات الهوائية المنتشرة في طهران. وقد أظهر استطلاع نظمته مدينة طهران في عام 2010 وجهات نظر متباينة للمواطنين حول هذه القضية. ويعتقد أكثر من 70 في المائة من المستطلعة آراؤهم أنهم لا يجدون مانعا في ركوب المرأة للدراجات الهوائية في طهران، بينما أعرب نحو 14 في المائة عن معارضتهم. ولا يرى 29 في المائة بتاتا أي عوائق تحول دون ركوب النساء للدراجات الهوائية، في حين تصل نسبة المؤيدين لذلك إلى 45 في المائة. وامتنع 12 في المائة عن الإدلاء برأيهم، في حين بلغت نسبة المعارضين 11 في المائة، بينما لم تتجاوز نسبة الرافضين بشدة لهذه الفكرة 3 في المائة.
وعما إذا كانت المرأة تتعرض للمضايقات والإزعاج في الشارع في حال ركوبها الدراجة، أكد 60 في المائة من المستطلعة آراؤهم أنها ستتعرض للمضايقات في الشارع، في حين أن 29 في المائة قالوا إنها لا تتعرض للمضايقات. وبينت النتائج الأكثر دقة أن 20 في المائة من المواطنين أعربوا بثقة تامة عن تعرض المرأة للمضايقات في الشارع إذا ركبت دراجة هوائية، في حين بلغت نسبة المؤيدين نسبيا لهذه الفكرة 39 في المائة. وبينما امتنع 12 في المائة عن الإدلاء برأيهم وصلت نسبة المعارضين لفكرة تعرض المرأة للمضايقات وهي تركب الدراجة الهوائية إلى 25 في المائة، وأعرب 4 في المائة عن رفضهم القاطع لفكرة مواجهة النساء أي مضايقات في حال ركوبهن الدراجة الهوائية.
وفي سؤال آخر حول طبيعة المضايقات التي قد تتعرض لها النساء اللواتي يركبن الدراجات الهوائية في طهران، يعتقد 35 في المائة من المستطلعة آراؤهم أن الحواجز الاجتماعية مثل المضايقات التي تتعرض النساء لها في الشارع من قبل الرجال هي العقبة الرئيسة التي تحول دون ركوب المرأة للدراجة الهوائية، بينما عد نحو 35 في المائة أن القوانين غير الرسمية والمعتقدات العامة مثل الحفاظ على السمعة الطيبة تقف وراء عدم تمكن النساء من ركوب الدراجات الهوائية. ويرى 30 في المائة أن السبب في عدم تمكن المرأة من ركوب الدراجة الهوائية هو تعارض ممارسة هذه الهواية مع أحكام الشرع مثل الالتزام بالحجاب الشرعي وانتهاك القوانين الإسلامية.
وتظهر النتائج أن معظم الناس في المناطق المختلفة في طهران لا يجدون مانعا في ركوب المرأة للدراجة غير أنهم يعتقدون أن هذا الأمر سيعرض المرأة لمضايقات في الشارع. كما أن هذه الفئة تعد الحواجز الاجتماعية كالتعرض للمضايقات، والمعتقدات العامة، هي السبب الذي يحول دون ركوب المرأة للدراجة الهوائية. وبينما يبدو في الوهلة الأولى أن العامل الديني يمثل العقبة الرئيسة في ممارسة النساء لركوب الدراجات الهوائية، فإن الاستطلاع يظهر أن المواطنين يرون أن الدين لا يتصدر قائمة الموانع التي تحول دون ركوب النساء الدراجات الهوائية.
وأثبتت الدراسة أن المتزوجين يشكلون النسبة الأكبر من المعارضين لفكرة ركوب النساء للدراجات الهوائية، في حين أن الموظفين والفئات العمرية دون 24 وبين 35 و44 سنة أبدوا آراء إيجابية أكثر من غيرهم بشأن هذا الأمر. وتعتقد غالبية العينات أن انتشار ثقافة ركوب الدراجات الهوائية يؤدي إلى الانتشار لهذه الهواية ووسيلة المواصلات في مدينة طهران.

* الموقف الرسمي الإيراني بشأن قيادة النساء للدراجات الهوائية
أعلن مدير شرطة المرور في مدينة طهران العميد حسين رحيمي منذ فترة عن فرض الحظر على ركوب المرأة للدراجة الهوائية في مدينة طهران، في الوقت الذي صرح فيه النائب السابق لمحافظ طهران للشؤون العمرانية محمد رضا محمودي في شهر يوليو (تموز) في عام 2012 أنه «لا يوجد حظر قانوني على ركوب النساء للدراجات الهوائية، ويجب نشر ثقافة تقبل المواطنين». وأدت حالة عدم الشفافية بشأن الاستمرار أو رفع الحظر على ركوب المرأة للدراجة الهوائية إلى عدم تمكن النساء من ممارسة هذه الهواية.
وقال سكرتير الإدارة المشرفة على ركوب الدراجات الهوائية في بلدية طهران منوتشهر دانشمند حول التصريحات التي أدلى بها محمد رضا محمودي: «لو يحضر نائب المحافظ إلى إحدى المحطات المخصصة لتأجير الدراجات الهوائية ويقوم بتزويد النساء بالدراجات الهوائية لكان الأمر رائعا، فنحن لم نتلق أي أوامر لتقديم الدراجات الهوائية للنساء، في حين أن محطات التأجير في شرق طهران يقتصر عملها على تزويد الرجال بالدراجات الهوائية».
وقد أعلن المدير السابق لمكتب إدارة النقل والوقود الإيراني محمد رويانيان عن تدشين مشروع بعنوان «دراجات هوائية مخصصة للنساء»، غير أن المشروع لم ير النور حتى الآن.
من جهة أخرى، قال مدير منظمة الرياضة التابعة لبلدية طهران إن هذه المنظمة قدمت طلبا بتدشين هذا المشروع لمجلس الثورة الثقافي المشرف على الأمر، ولكنها لم تتلق ردا حتى اللحظة.
وأدت هذه الآراء المتباينة بالفعل إلى امتناع محطات تأجير الدراجات الهوائية عن تقديم خدماتها إلى النساء.

* النظرة الدينية إلى قضية قيادة المرأة للدراجات الهوائية
يعد موقف الدين من قضية ممارسة النساء لهواية ركوب الدراجات الهوائية من أهم أبعاد معارضة هذا الأمر في المجتمع. وأثار المقال المنتشر على موقع تابع للحوزة الدينية في إيران حول قيادة المرأة لدراجة هوائية جدلا واسعا في إيران. وينقل كاتب المقال كاظم علي محمدي روايات عديدة عن الإمام جعفر الصادق وأئمة آخرين حول هذا الأمر. ويقول محمدي إن «الرسول الأكرم نهى النساء عن الركوب على سرج الخيل». ويستشهد الكاتب برواية أخرى تقول إن «النساء يركبن على سروج الخيول في آخر الزمان». ويخلص محمدي إلى أن الدين الإسلامي لا يجيز ركوب المرأة لدراجة هوائية.
ولم تقتصر هذه الاجتهادات على الحوزات الدينية، إذ انتقد العديد من المرجعيات الدينية ركوب النساء للدراجات الهوائية. وصرح آية الله مكارم الشيرازي أنه «من الضروري تفادي الأمر بسبب التداعيات السلبية التي يخلفها وعدم الأخذ بعين الاعتبار بمن يحثون عليه». ويرى آية الله السيستاني أنه «إذا كانت المرأة تتعرض لنظرات الغرباء وهي بوضع مثير فلا يجوز ركوبها دراجة هوائية»، في الوقت الذي يعتقد فيه آية الله بهجت أن «كل ما يمهد لإشاعة الفساد فهو حرام». ويقول آية الله خامنئي إنه «على المرأة تفادي أي نشاط يثير انتباه الغرباء إليها». ويعتمد بعض المرجعيات الدينية موقفا أكثر اعتدالا بهذا الشأن، حيث يرى آية الله محمد عز الدين الحسيني الزنجاني أن «قيادة النساء للدراجات النارية والهوائية وركوب الخيل جائز بشرط الالتزام بالحجاب الذي ينص عليه الشرع».

* محطات تأجير الدراجات الهوائية «للرجال فقط»
لقد بدأت محطات تأجير الدراجات الهوائية أعمالها في طهران منذ 2009 وتنتشر في الوقت الحاضر في عدد من المناطق في العاصمة الإيرانية. ويصل عدد محطات تأجير الدراجات الهوائية إلى 140 في طهران، في حين يؤكد المسؤولون وجود أكثر من 4500 دراجة هوائية منتشرة في مدينة طهران.
وقال أحد المسؤولين في شركة بارسا التنفيذية لمشروع قيادة الدراجات الهوائية في طهران في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «لقد انطلقت محطات تأجير السيارات في مناطق مختلفة في مدينة طهران، ولكن عدد الدراجات الهوائية في محطات تأجير الدراجات الهوائية يختلف من محطة إلى أخرى». وتابع المسؤول الإيراني أن نسبة إقبال المواطنين على هذا المشروع «جيدة»، وزاد قائلا: «لدينا على سبيل المثال نحو 5 إلى 6 آلاف شخص سجلوا كأعضاء في 30 محطة لتأجير الدراجات منتشرة في المنطقة الخامسة في طهران». ويبدو أن كافة الأعضاء المسجلين في محطات تأجير الدراجات الهوائية هم من الرجال، ولا يوجد مشروع يقضي بإجراء تعديلات على السياسة القائمة حتى إشعار آخر. وبينما تلقت فكرة قيادة المرأة للدراجة الهوائية معارضة صارمة من المحافظين ورجال الدين، لا يقدم الرأي العام الإيراني دعما جادا لرفع هذا الحظر المفروض على ركوب النساء للدراجة. وقد تكون قضية المضايقات التي تتعرض لها النساء من قبل الرجال أثناء قيادتهن الدراجات الهوائية هي السبب الرئيس الذي يقف وراء ضعف إقبال الرأي العام على رفع الحظر، وهو أمر تصدر قائمة أسباب منع النساء من قيادة الدراجات الهوائية في الدراسة التي أجرتها بلدية مدينة طهران.
* خدمة: الشرق الأوسط فارسي {شرق بارسي}



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)