شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

كتاب يلقي الضوء على إنجازات أونغاريتي وسابا ومونتالي

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية
TT

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

يختار أستاذ الأدب الإيطالي المقيم بفلورنسا محمود سالم الشيخ في كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب «أهم شعراء الطليان في القرن العشرين» الشعراء: «جوزيبي أونغاريتي» و«أمبرتو سابا» و«يوجنيو مونتالي»، مبرزاً ملامح من سيرهم الفنية والذاتية باعتبارهم الثلاثة الكبار - برأيه - الذين أثروا في مسيرة الشعر الإيطالي في ذلك القرن. قدم للكتاب المترجم وأستاذ الأدب الإيطالي د. حسين محمود، مشيداً بالجهد الذي بذله المؤلف فيه، مما يجعله إضافة للمكتبة العربية.

جوزيبي أونغاريتي
عن «أونغاريتي» يذكر المؤلف أنه ولد بمدينة الإسكندرية في 8 فبراير (شباط) 1888 لأبوين إيطاليين وقضى بها فترة طفولته وشبابه، حيث كان والداه يديران مخبزاً. درس أونغاريتي في المدرسة السويسرية «سويس جاكو». أشهر مدارس الإسكندرية آنذاك ولم يغادرها متجهاً إلى إيطاليا عام 1912 بل إلى فرنسا ليتم دراسته بالسوربون، وهناك تتلمذ على يد كل من: «بيديه» و«بيرجسون» و«لانسون» و«ستروفسكي» وغيرهم من كبار أساتذة «كوليج دو فرانس». وفي تلك الفترة ارتبط بصداقة وثيقة مع أدباء الطليعة مثل «بول فور» و«أبوللنير» وتعرف على «بيكاسو» و«دي كيريكو». وتشرّب بالثقافة والشعر الفرنسي من «جوران» إلى «لافورج» إلى «ريفردي» و«أبوللونير» و«سندرارس»، الأمر الذي ساعده على اقتحام التراث الشعري الإيطالي التقليدي بروح ثورية متمردة وواثقة.
تمثلت هذه الثورة في تجديد بيت الشعر الإيطالي بإدخال البيت الحر. وهو ما يتضح مثلاً في ديوانه «البهجة»، حيث نجد أن بيت الشعر الجديد محطم، مفكك، منقسم إلى عدة أبيات قصيرة، كما أن كلمات هذا الديوان مستقاة من قاموس اللغة الدارجة. وقد أعطى «أونغاريتي» هذه الكلمات الدارجة قوة رمزية واسعة النطاق تبرزها فترات السكون والفراغ الأبيض، ويجمعها إزالة علامات الترقيم أسوة بأسلوب الشاعر الفرنسي أبوللونير، وبذلك اكتسبت الكلمة قوة تعبيرية عميقة بعكس الشعر التقليدي.
ويورد المؤلف عدة مقاطع قصيرة كنماذج من أشعار أونغاريتي، التي اتسمت بالقصر الشديد، فنقرأ على سبيل المثال في قصيدة «ملل»:
«ستمر أيضاً هذه الليلة
هذه الوحدة مع تأرجح
ظلال أسلاك الترام المضطربة
على الإسفلت الرطب
أنظر إلى رؤوس الحوذية
في غفوتها تتأرجح»
وهناك قصيدة أخرى بعنوان «بيتي» يقول فيها:
«فاجأني بعد زمن طويل
بحب
ظننت أنني بعثرته
في أرجاء العالم»
اشترك أونغاريتي في الحرب العالمية الأولى متطوعاً ثم انضم مبكراً في عام 1919 إلى الحزب الفاشي في بداية نشأته وظل مخلصاً للفاشية حتى سقوطها وقد قدم لديوانه «الميناء المغمور»، الذي نشر عام 1923 «بنيتو موسوليني» وفي الفترة من عام 1919 حتى 1921 عمل مراسلاً من باريس لصحيفة «بوبولو ديتاليا» صحيفة الحزب الفاشي، حيث كان يعمل في الوقت نفسه في السفارة الإيطالية. وبعد عودته إلى إيطاليا في عام 1921 شغل منصباً مرموقاً في وزارة الخارجية الإيطالية لأكثر من عشر سنوات.

أمبرتو سابا
ترجع شهرة وأهمية أمبرتو سابا أولاً إلى نشأته في مدينة «تريسته»، وإلى إيمانه الشديدين بموازين وقوانين الشعر التقليدي، بخاصة تجارب القرنين الثامن والتاسع عشر، وثانياً كان أول شاعر إيطالي يضيف البعد النفسي إلى أشعاره حتى وصفه أكبر النقاد الإيطاليين المعاصرين «جانفرانكو كونتيني»، بأنه محلل نفسي قبل اكتشاف علم النفس.
كانت «تريسته» مدينة تجارية لا تتسم بعراقة ثقافية وتمتلئ بالأجناس المختلفة والعادات الكثيرة كما أنها كانت تحت حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية، لذا كان من يريد الارتباط بالثقافة الإيطالية أو الكتابة باللغة الإيطالية يجد نفسه في موقف غاية في الصعوبة والحرج
ولد أمبرتو في 9 مارس (آذار) 1883 من أم يهودية وأب مسيحي وترك أبوه أمه قبل ولادته فلم ير والده قبل سن العشرين ورفض أن يسمى باسمه «بولي»، رغم أنه يعود إلى عائلة من العائلات النبيلة في البندقية ليتخذ الاسم المستعار «سابا» تكريماً لأصل أمه اليهودية. وهو يعني في اللغة العبرية الخبز، كما استهدف أمبرتو» كذلك تكريم اسم مرضعته اليوغسلافية «ببت سابا»، وهنا تبدأ مآسي ومعاناة الإنسان والشاعر، فيبدأ انقسام سابا النفسي الذي نقرأه في إحدى قصائده:
«مدخل وهروب آه يا قلبي المشطور منذ الولادة
كم من آلام عانيت لأجعل منك قلباً واحداً
كم من ورود احتجت لإخفاء الهاوية»
أم قاسية أو شديدة القسوة والأب غير موجود، من هنا تبدأ المعركة والصراع النفسي ويزداد تعقيداً باختلاف جنس وأصل الوالدين. يصف هذا الصراع في إحدى قصائده الشهيرة بعنوان «سيرة ذاتية»:
«كان أبي بالنسبة إلي القاتل
حتى عرفته في سن العشرين
كان مرحاً وخفيفاً وكانت أمي
تتحمل كل أعباء الحياة
لقد أفلتت من يده كالكرة
(لا تشابه والدك) كانت تحذرني
وأخيراً فهمت:
كانا جنسين في صراع أزلي»
وتعتبر حضانة أمبرتو في كنف «ساباتز» أسعد فترات الطفولة في حياة «سابا» لدرجة أنه اعتبر منزل المرضعة «الجنة الخضراء عدن»، كما يصفه في «ثلاث قصائد إلى مرضعتي»:
«أرقد على صدر من لا تزال تسميني برتو
أرقد على الصدر الأول
لم يستسلم سابا لأجواء «تريسته» الخانقة، فتمكن من تحويل ما يسميه «الخطيئة الأصلية»، أي التخلف الثقافي لمدينته إلى فضيلة شخصية حيث وطد علاقات مع المجتمع الثقافي النمساوي والألماني بخاصة مع الفيلسوف نيتشه ومع المهتمين بدراسة علم النفس. وكان لمعرفة «نيتشه» و«فرويد» في حياة سابا كإنسان وشاعر أثر كبير، كما يشير في نهاية قصيدته «مقتضبات»:
«أصل المقتضبات نيتشه وفرويد»
وعن مدينة «تريسته» يقول:
«مدينتي حيث ولدت بها
كنت اكتشفتها طفلاً أكثر من أي شخص آخر
ويافعاً بالشعر زوجتها إيطاليا إلى الأبد».

يوجينيو مونتالي
بينما كان أونغاريتي منغمساً في تجديد بيت الشعر وتغيير شكله وتركيز موسيقى شعره على النطاق الضيق للكلمة، وبينما كان سابا عاكفاً في عزلته النائية يرتب ديوانه في شعر تقليدي وينادي بتخليد نفسه كشاعر العصر، كان يوجينيو مونتالي (1896 - 1981) يمثل الضمير الحي ليس فقط للحياة الأدبية والثقافية، بل كذلك السياسية في إيطاليا. فرغم وجود شخصية كبيرة ووقورة ومؤثرة في الفكر الإيطالي في ذلك الوقت مثل الفيلسوف «بنديتو كروتشي» فإن «مونتالي» تحمل عبء مآسي وقلق ورعب طبقة المفكرين والمثقفين ليس فقط في إيطاليا، بل في العالم أجمع أثناء الفترة الغامضة، التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي فترة التعمير التي تلت الحرب. ويرجع ذلك لسببين، أولهما أن مونتالي كان يعتبر الشعر النشاط الحر الوحيد للروح الذي يسمح للإنسان بمزاولة حريته دون تدخل أو ضغط خارجي. الثاني أن حياة مونتالي نفسها ليست إلا مرآة صادمة لشاعريته ومبادئه الأخلاقية بما ترتب عليه استقلاله في مختلف أنشطته: شاعراً وناقداً وباحثاً.
ويذكر الكتاب أنه كان متحفظاً خجولاً، لكن نظرته الحادة المنتبهة وبصيرته وحكمة التقدير التي كانت تنبثق من عينيه، كانت تزيد من وقار شخصيته، وتفسر مبدأه الأخلاقي الشهير: «أنظر وأناظر»، الذي كان له أثر عميق وفعال في المجتمع الأدبي، بخاصة لدى الشباب الذين كانوا يتقربون إليه.
ويلفت المؤلف إلى أن اهتمام مونتالي يرتكز على وظيفة الشعر كوسيلة للاتصال وللدلالة على شخصية الشاعر ليس بمفهوم الساحر لكن بمفهوم العاقل والحكيم المجرد من الفتنة والسحر كما يؤكد لنا نفسه في يرتكز مقالته «طراز وتقليد» التي نشرها في مجلة «باريتي» في 15 يناير (كانون الثاني) 1925. وإذا قارننا هذا المفهوم بما صرح به الشاعر في رسالة إلى «جلاوكو جامبون» نشرت في مجلة «أوت أوت» عام 1962: «أنا أبدأ دائماً من الحقيقة لا أخترع شيئاً»، فسندرك أن شعر مونتالي يحتوي في أساسه على رغبة الشاعر في المعرفة، حيث يعتبر القصيدة وسيلة لفهم الحقيقة وترجمتها على عكس الكتاب الرومانتيكيين الذي يعتبرون الشعر «خلقاً أو ابتكاراً» لحقيقة أخرى مستقلة ومختلفة عن الحقيقة المألوفة.
ولد يوجينيو مونتالي في مدينة جنوا وبعد انتهاء المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة الإعدادية، ولكنه لم ينه هذه المرحلة بسبب مرضه وبعد شفائه تابع الدراسة بنفسه بمساعدة أخته ماريانا. وبرغم هشاشته وضعف صحته التحق بعهد «فيكتوريو إيمانويلي» التجاري وحصل منه عام 1915 على المؤهل، ثم واصل القراءة والدراسة بالمكتبات العامة بمدينة جنوا.
وفي 1916 تخلى مونتالي عن فكرة أن يصبح مطرباً وتفرغ كلية للشعر، حيث ظهرت في ذلك العام أول قصيدة كتبها الشاعر بعنوان «استهلال» التي يقول فيها:
«استمتعي فالريح التي تدخل البستان
تعيد إليه موجة الحياة:
هنا حيث تغوص لفافة
الذكريات الميتة
لم يكن بستاناً بل ضريح».


مقالات ذات صلة

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

في عملية واسعة النطاق شملت عدة ولايات ألمانية، شنت الشرطة الألمانية حملة أمنية ضد أعضاء مافيا إيطالية، اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. وأعلنت السلطات الألمانية أن الحملة استهدفت أعضاء المافيا الإيطالية «ندرانجيتا». وكانت السلطات المشاركة في الحملة هي مكاتب الادعاء العام في مدن في دوسلدورف وكوبلنتس وزاربروكن وميونيخ، وكذلك مكاتب الشرطة الجنائية الإقليمية في ولايات بافاريا وشمال الراين - ويستفاليا وراينلاند – بفالتس وزارلاند.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

أصبح برنامج «تشات جي بي تي» الشهير الذي طورته شركة الذكاء الاصطناعي «أوبن إيه آي» متاحا مجددا في إيطاليا بعد علاج المخاوف الخاصة بالخصوصية. وقالت هيئة حماية البيانات المعروفة باسم «جارانتي»، في بيان، إن شركة «أوبن إيه آي» أعادت تشغيل خدمتها في إيطاليا «بتحسين الشفافية وحقوق المستخدمين الأوروبيين». وأضافت: «(أوبن إيه آي) تمتثل الآن لعدد من الشروط التي طالبت بها الهيئة من أجل رفع الحظر الذي فرضته عليها في أواخر مارس (آذار) الماضي».

«الشرق الأوسط» (روما)
العالم إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

في الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) من كل عام تحتفل إيطاليا بـ«عيد التحرير» من النازية والفاشية عام 1945، أي عيد النصر الذي أحرزه الحلفاء على الجيش النازي المحتلّ، وانتصار المقاومة الوطنية على الحركة الفاشية، لتستحضر مسيرة استعادة النظام الديمقراطي والمؤسسات التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم. يقوم الدستور الإيطالي على المبادئ التي نشأت من الحاجة لمنع العودة إلى الأوضاع السياسية التي ساهمت في ظهور الحركة الفاشية، لكن هذا العيد الوطني لم يكن أبداً من مزاج اليمين الإيطالي، حتى أن سيلفيو برلوسكوني كان دائماً يتغيّب عن الاحتفالات الرسمية بمناسبته، ويتحاشى المشاركة فيها عندما كان رئيساً للحكومة.

شوقي الريّس (روما)
شمال افريقيا تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

أعلنت الحكومة المصرية عن عزمها تعزيز التعاون مع إيطاليا في مجال الاستثمار الزراعي؛ ما يساهم في «سد فجوة الاستيراد، وتحقيق الأمن الغذائي»، بحسب إفادة رسمية اليوم (الأربعاء). وقال السفير نادر سعد، المتحدث الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء المصري، إن السفير الإيطالي في القاهرة ميكيلي كواروني أشار خلال لقائه والدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، (الأربعاء) إلى أن «إحدى أكبر الشركات الإيطالية العاملة في المجال الزراعي لديها خطة للاستثمار في مصر؛ تتضمن المرحلة الأولى منها زراعة نحو 10 آلاف فدان من المحاصيل الاستراتيجية التي تحتاج إليها مصر، بما يسهم في سد فجوة الاستيراد وتحقيق الأمن الغذائي». وأ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!