تفجرت أزمة النظام السياسي في العراق بطريقة مختلفة بعد الانتخابات المبكرة التي أجريت خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021؛ تلك الانتخابات التي جرى القدح في نتائجها جاءت بعد ما سمي «حراك» أو «انتفاضة» أو «ثورة أكتوبر» 2019، التي هزت أركان نظام ما بعد عام 2003 الذي صممه وأخرجه الأميركيون بعد احتلالهم العراق ذلك العام. الشعار الذي رفعه الثوار خلال تلك الانتفاضة الجماهيرية هو «نريد وطن». ولأن كل القوى السياسية العراقية من كل المكونات العرقية والدينية والمذهبية رتبت كل خياراتها السياسية بصرف النظر عن الذرائع، وفقاً للمحاصصة العرقية والطائفية، فإنه لم يكن وارداً بالنسبة لها ظهور قوى يمكن أن تهدد مصالحها، وما بنته من إمبراطوريات مالية ومن نفوذ وسلطة وسلاح عبر رفعها شعار «نريد وطن»، وذلك أنه لو تحقق هذا الشعار كان سيرسخ هوية «المواطَنة»، ويلغي أي تمايز بين العراقيين طبقاً لأي هوية فرعية.
مع تمكن بعض القوى السياسية النافذة من اختراق تظاهرات «الحراك» أو «ثورة أكتوبر 2021» عبر واجهات وأساليب مختلفة، بحيث أصبحت لها خيم في ساحة التحرير تحت ذريعة التظاهر من أجل الحقوق، فإن المتظاهرين المدنيين وُجِهوا بالرصاص الحي عبر ما عرف آنذاك بـ«الطرف الثالث».
هذا الطرف الثالث، الذي لم يتمكن أحد حتى الآن من معرفة هويته، قتل ما لا يقل عن 600 متظاهر، وأدى إلى جرح وإعاقة أكثر من 24 ألفاً آخرين. كذلك، أدت التطورات المتلاحقة إلى استقالة الحكومة التي كان يرأسها عادل عبد المهدي، وجاء رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي. وعلى طلبت القوى السياسية من الكاظمي إجراء انتخابات مبكرة طبقاً لقانون جديد جرى الاتفاق عليه بين القوى السياسية ذاتها.
وبالفعل، أجرى الكاظمي انتخابات مبكرة، ملبياً إرادة تلك الكتل والأحزاب التي كانت فد فشلت في تشكيل حكومة طوال الأشهر التسعة السابقة. ولكن قبل إجراء الانتخابات ببضعة أشهر انسحب زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، من المشاركة فيها. ولأن مقاطعة الصدر تبدو أمراً في غاية الصعوبة، نظراً لجمهوره العريض والمطيع، بذلت القوى السياسية جهوداً كبيرة من أجل إقناعه بالعدول عن هذا الانسحاب. وهكذا عاد الصدر، وأجريت الانتخابات، وظهرت النتائج التي فاجأت الفائزين والخاسرين على حد سواء. الصدر نفسه فوجئ بفوزه الكبير الذي كان حجمه فوق ما كان متوقعاً. ثم إنه شكل قوائمه قبيل موعد الانتخابات بفترة قصيرة، بينما كان خصومه في البيت الشيعي - الذي تمزق بين «التيار» و«الإطار التنسيقي» - قد أكملوا تحضيراتهم ودعاياتهم... حالمين بتحقيق نتائج يمكن أن تقلب الموازين.
- ... وانقلبت الموازين
لقد انقلبت الموازين، فعلاً، بعد ظهور النتائج. واحتل الصدر المقدمة بـ73 مقعداً في البرلمان، بينما لم تحقق كل قوى «الإطار التنسيقي» («دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«الفتح» بزعامة هادي العامري، و«العصائب» بزعامة قيس الخزعلي، و«تيار الحكمة» بزعامة عمار الحكيم، و«النصر» بزعامة حيدر العبادي) مجتمعة سوى عدد مقارب لعدد نواب كتلة الصدر. وعلى الأثر، اعترض «الإطاريون» على النتائج، ونظموا اعتصامات أمام بوابات «المنطقة الخضراء» بوسط بغداد. كذلك قطعوا «الجسر المعلق» لأكثر من شهرين ونصف الشهر، وكانت الحجة التي استندوا عليها في سلسلة دعاوى رفعوها أمام المحكمة الاتحادية العليا هي أن الانتخابات مزورة، مطالبين بإعادة العد والفرز يدوياً.
ورغم استجابة القضاء بشأن العد والفرز يدوياً للصناديق المشكوك في نتائجها، فإن المحكمة الاتحادية صادقت في النهاية على نتائج الانتخابات. ومن ناحية ثانية، لم تتمكن القوى السياسية من حسم الاستحقاقات الدستورية - أبرزها انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة - ما أدى إلى انسحاب الكتلة الصدرية التي قدمت استقالات جماعية إلى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، بناءً على أوامر الصدر. وعندها، أعلن «الإطار التنسيقي» الذي بات الكتلة الأكبر عن جاهزيته لتشكيل الحكومة طالما صار الصدر خارج البرلمان.
لكن فرحة «الإطاريين» لم تطل، بعدما أعلن الصدر المنسحب أنه لن يسمح لهم بتشكيل الحكومة. وفي هذه الأثناء دخلت تسريبات المالكي على خط الأزمة بين «التيار» و«الإطار»... تحديداً بينه وبين الصدر. ورغم الجهود التي بذلها هادي العامري، زعيم تحالف «الفتح»، لرأب الصدع أو تقريب وجهات النظر بين الطرفين، أخذت الأمور مسارات مختلفة في التصعيد، كان آخرها مطالبة الصدر بحل البرلمان عبر استخدام ورقة الشارع. وهذا ما رفضه المالكي بشكل قاطع حين أعلن في خطاب له لمناسبة عاشوراء أنه «لا يمكن لجهة سياسية واحدة فرض إرادتها على الآخرين».
ومن ثم، ازدادت الأوضاع تعقيداً، حين طلب الصدر من مجلس القضاء الأعلى حل البرلمان، مانحاً إياه مهلة لمدة أسبوع فقط. وكان واضحاً أن الصدر، سواءً في هذه الدعوى لحل البرلمان عبر القضاء أو سواها من سياقات التصعيد، إنما يراهن على ورقة الشارع. بيد أن هذه الورقة تبقى محفوفة بالمخاطر في حال لم يستجب الآخرون لكل ما يدعو إليه زعيم «التيار»، لا سيما، أن قوى «الإطار» بدأت تفكر في إمكانية عقد جلسة برلمانية كاملة النصاب في مدينة أخرى غير بغداد، وفي مقر آخر غير مقر البرلمان الذي يحتله الصدريون.
سياسي عراقي مطلع يرى الآن أن «مقتدى الصدر يملك الشارع، حتى من خارج تياره الشعبي العريض، لكن قوى الإطار التنسيقي باتت تملك الغالبية في البرلمان بعد انسحاب نواب الصدر. وهو الأمر الذي يجعلهم قوة برلمانية مؤثرة قادرة على تغيير الموازين السياسية، بما في ذلك التصويت على حل البرلمان». وأضاف السياسي العراقي - الذي طلب التكتم على اسمه - في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «قوى الإطار التنسيقي تريد التفاهم مع الصدر قبل أي إجراءات يمكن أن تناقش حول حل البرلمان، وذلك لأنه في الآليتين اللتين حددهما الدستور تحتاج الموافقة على الحل للغالبية المطلقة لعدد أعضاء البرلمان. هذا يعني أنه حتى إذا وافقت معظم الكتل على الحل، فإن لدى الإطار التنسيقي غالبية التعطيل، لأنه لم يعد للتيار الصدري داخل البرلمان سوى نائب واحد، وبالتالي يقتصر رهان الصدر على الضغط الجماهيري».
من جانبه، يرى الخبير القانوني علي التميمي، في بيان له، أن «المحكمة الاتحادية العليا لا يمكنها حل البرلمان لعدم وجود آلية الحل القضائي في الدستور العراقي، وإنما حل البرلمان يكون ذاتياً. أي أن البرلمان يحل نفسه بنفسه بالتصويت بالغالبية المطلقة لعدد الأعضاء». ويضيف التميمي: «الذهاب باتجاه حل البرلمان يكون بطلب من ثلث الأعضاء، أو بطلب مشترك من رئيس مجلس الوزراء والجمهورية وفق المادة 64 من الدستور». ويشير إلى أنه «لا يوجد ضمن اختصاصات المحكمة الاتحادية الواردة في المادة 93 من الدستور مثل هذا الحق، ولا في قانونها الخاص الرقم 30 لسنة 2005، ولا في نظامها الداخلي. ولقد ردت المحكمة الاتحادية عدداً من الدعاوى التي أقيمت أمامها سابقاً بهذا الخصوص لعدم الاختصاص».
أما الخبير القانوني أمير الدعمي، فقال خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «حل البرلمان طبقاً لآلية تقديم طلب من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية غير صحيح، لأن رئيس الجمهورية غير منتخب من البرلمان الحالي، ورئيس الوزراء منتهية ولايته. وبالتالي من غير الممكن تخصيص موازنة أو ميزانية للحكومة لغرض إجراء الانتخابات». وبين أن «الطريق الوحيد للحل هو انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة قد تكون مؤقتة لفترة معينة حتى تأخذ الشرعية باتجاه تخصيص الأموال لإجراء الانتخابات». وأوضح الدعمي أن «المحكمة الاتحادية أكدت أن حكومات تصريف الأعمال ليس من مهامها، أو واجباتها، القرارات ذات البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي... وهو ما يعني عدم إمكانية حل البرلمان وفق هذه الآلية».
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي
- حوار الألف سنة
في هذه الأثناء، يحاول مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، إيجاد مقاربات لحل الأزمة السياسية الراهنة. وخلال الأسبوع الماضي أطلق «مبادرة» للحل رحبت بها معظم القوى السياسية بمن في ذلك المختلفون معه.
الكاظمي دعا الكتل السياسية إلى تجنب الانسياق نحو الاتهامات ولغة التخوين ونصب العداء والكراهية بين «الإخوان في الوطن الواحد»، والجلوس على طاولة «حوار وطني» للوصول إلى حل سياسي للأزمة الحالية، تحت «سقف التآزر العراقي، وآليات الحوار الوطني». وفي سياق مبادرته للحوار أكد أنه «حان الوقت الآن للبحث في آليات إطلاق مشروع إصلاحي يتفق عليه مختلف الأطراف الوطنية، وأنا على يقين بأن في العراق ما يكفي من العقلانية والشجاعة، للمضي بمشروع وطني يخرج البلد من أزمته الحالية». وتابع: «يجب على القوى السياسية أن تتحمل مسؤوليتها الوطنية والقانونية، فحكومة تصريف الأعمال قامت بكل واجباتها رغم تجاوزها السقف الزمني الذي رسمته التوقيتات الدستورية لتشكيل حكومة جديدة، ما يعد خرقاً دستورياً. ومع كل ذلك فنحن كنا وما زلنا على استعداد لتقديم كل المساعدة، للوصول إلى صيغة حل مرضية للجميع، وبما يحفظ السلم الاجتماعي، واستقرار مؤسسات الدولة ومصالح الناس».
وفي هذا السياق، قال الدكتور حسين علاوي، مستشار رئيس الوزراء العراقي لـ«الشرق الأوسط»، إن «مبادرة رئيس الوزراء حول الحوار الوطني مهمة جداً في ظل الأزمة السياسية في البلاد الناجمة عن التصعيد السياسي». وأردف أنه لا بد من «تحمل القوى السياسية العراقية مسؤوليتها التاريخية من جهة، والحفاظ على السلم الأهلي والأمن العام من جهة ثانية... بعد دخول المحتجين والمتظاهرين من القوى الاجتماعية والشعبية التي ترفع شعارات عن ضرورة الإصلاح الشامل للدولة وأجهزتها». وأردف علاوي أن «التأييد الذي حظيت به المبادرة ودعم القوى السياسية للجلوس على طاولة واحدة من أجل الحوار والنقاش... حالة صحية الآن للنظام السياسي العراقي في أن يبحث عن مخرج للأزمة السياسية». وبين «أن رئيس الوزراء سيعمل على تصميم مبادرة الحوار بالتشاور مع قادة القوى السياسية والرئاسات الثلاث من أجل دعم الاستقرار والسلم الأهلي، ومناقشة الخيارات المتاحة والمطالب والنقاط الأساسية التي ستكون أجندة لهذا الحوار». أيضاً أوضح علاوي أن «هناك استحقاقات أمام الجميع، وفي كل الميادين والمجالات، وهو ما يتطلب من قادة القوى السياسية التنازل من أجل العراق والشعب العراقي حفاظاً على المشتركات بين الجميع».