الكرملين يعزز أوراقه التفاوضية تحضيراً لـ«ما بعد الدونباس»

سيناريوهات لتحديد مصير المناطق الانفصالية ومسار المواجهة مع الغرب

رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
TT

الكرملين يعزز أوراقه التفاوضية تحضيراً لـ«ما بعد الدونباس»

رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)
رجل إطفاء أوكراني على سطح مبنى دمر جزء منه بقصف روسي قبل أيام (رويترز)

مع اقتراب الحرب الأوكرانية من دخول شهرها السادس، بدأ الكرملين تحضيراته لدخول مرحلة جديدة من الصراع، في مقابل تفاقم إمدادات الأسلحة الغربية إلى ساحة المعركة، ودخولها بشكل نشط على خط المواجهة الميدانية في إطار ما وُصف خلال الأسبوع الأخير بأنه «الهجوم المضاد لتحرير مدينة خيرسون». وفي الوقت ذاته، وضع اقتراب القوات الروسية من حسم معركة السيطرة في منطقة حوض الدونباس القيادة الروسية أمام السيناريوهات المحتملة للتعامل مع «المناطق المحررة»، وذلك في ضوء صعوبة تكرار تجربة ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014 عبر استفتاء شعبي صوريّ لم يحظَ باعتراف دولي. لقد كان السؤال الأكثر تردداً عندما أطلقت روسيا المرحلة الثانية من عمليتها العسكرية في أوكرانيا تحت عنوان «تحرير الدونباس» هو: هل يذهب الكرملين أبعد من ذلك؟ وهل يتجه نحو إطلاق مرحلة جديدة يحاول فيها رغم كل الضغوط الغربية توسيع مساحة سيطرته عسكرياً... والانتقال إلى هدف «تقويض السلطة النازية في أوكرانيا»؟

أثارت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأيام الأخيرة عن أن بلاده «لم تبدأ بعد تنفيذ مهامها الجدية في أوكرانيا» مخاوف وتساؤلات حول طبيعة «المهام» التي يقصدها، وما إذا كانت مرتبطة بمرحلة جديدة من العمليات العسكرية تعقب السيطرة الروسية الكاملة على منطقة حوض الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا.
لقد تعمّد الرئيس الروسي إطلاق تصريحه المثير للجدل خلال اجتماع لرؤساء الكتل النيابية في مجلس الدوما (النواب) الخميس الماضي، وقال إن «كل الأطراف تعلم جيداً أننا لم نبدأ بعد أي شيء جدي في أوكرانيا». وأردف: «نسمع أننا بدأنا حرباً في الدونباس، في أوكرانيا. لا، لقد أطلقها هذا الغرب الجماعي، حيث نظم ودعم انقلاباً مسلحاً غير دستوري في أوكرانيا في عام 2014 ثم شجع وبرّر الإبادة الجماعية ضد الناس في الدونباس»، مضيفاً أن «هذا الغرب الجماعي نفسه هو المحرّض المباشر والمذنب فيما يحدث اليوم».

- إشارات لا... زلّات لسان
لقد دلّت التجارب السابقة إلى ضرورة التعامل بجدية مع الإشارات التي يطلقها الرئيس الروسي، والتي تأتي أحياناً على شكل «زلات لسان» تبدو للوهلة الأولى كأنها غير متعمدة.
إذ اعتاد بوتين على توجيه إشارات واضحة ومباشرة أحياناً، إلى خطواته المقبلة عند الاستحقاقات الكبرى، ولم يخفِ في أوقات سابقة توجهه إلى اتخاذ قرارات مصيرية في حالات عدة. وهذا حدث عند اتخاذ قرار ضم القرم في مارس (آذار) 2014، وعند إعلان الاعتراف بسيادة لوغانسك ودونيتسك يوم 21 فبراير (شباط) الماضي، قبل ثلاثة أيام فقط من إعلان انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا.
وحقاً، ربط معلقون روس عبارة الرئيس الجديدة، بتطورات الوضع الميداني في أوكرانيا، بعد مرور أيام على استكمال فرض سيطرة كاملة على منطقة لوغانسك والانتقال إلى حسم معركة دونيتسك. وهو ما يعني أن كلمات بوتين قد تحمل بين دلالاتها إشارة محددة إلى مرحلة «ما بعد الدونباس» في الحرب الجارية.
اللافت هنا أن حديث الرئيس الروسي جاء تتويجاً لإشارات مماثلة صدرت عن المستوى العسكري والأمني في روسيا، فضلاً عن التلويح المتواصل باتساع حجم المعركة ودخولها مرحلة طويلة الأمد تكاد تكون حرب استنزاف كاملة، كما قيل أكثر من مرة، على أعلى المستويات السياسية في روسيا.

- «حرب مفتوحة»
ولقد عزز من هذا التوجه تزايد تصريحات المسؤولين الروس خلال الفترة الأخيرة حول تحول المعركة في أوكرانيا من مواجهة محدودة الأهداف إلى «حرب مفتوحة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) تجري على الأراضي الأوكرانية» وفقاً لتصريح رئيس جهاز المخابرات الخارجية سيرغي ناريشكين.
في هذا الإطار، لا يمكن تجاهل أن بوتين كان قد وضع أصلاً بين أهداف العملية العسكرية الرئيسية «نزع سلاح أوكرانيا وتقويض النازية» في هذا البلد، فضلاً عن هدف حماية سكان الدونباس. وهذه أهداف تبدو أبعادها واسعة النطاق وأبعد من خطوات ميدانية محددة مثل إنجاز السيطرة على منطقة دونباس.
وتحمل إشارات الخارجية الروسية خلال اليومين الماضيين حول امتداد «النازية الجديدة» إلى كل أوروبا بعدما كانت واضحة في أوكرانيا وحدها، إشارة لافتة وخطرة إلى آليات تفكير النخبة السياسية في روسيا هذه الأيام. وهذا، خصوصاً مع عودة الإشارات إلى خطر اتساع المواجهة المباشرة وانتقالها إلى «صراع مباشر بين روسيا والغرب» كما نبّهت قبل أيام الناطقة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا التي حذّرت من أنه في هذه الحال لا يمكن تقليل المخاوف من انزلاق الوضع نحو مواجهة تستخدم فيها مكونات نووية.
لكنّ إشارة بوتين الواضحة جاءت محددة في الإطار الجغرافي الأوكراني، وتحمل دلالات مباشرة إلى أن عدم التوصل إلى خطة سلام مُرضية للروس سوف يعني «استكمال تنفيذ الأهداف الأكثر جدية في أوكرانيا».
في هذا الإطار، برزت تصريحات لافتة لمسؤولين عسكريين، بينهم الرئيس الشيشاني الذي يقود مجموعات من كتائب المتطوعين الذين لعبوا دورا رئيساً في معركة الدونباس. وهو قال أخيراً إن جنوده «بانتظار تعليمات من القيادة العليا لاستكمال أهداف أخرى تصل إلى العاصمة كييف».
لكن، هل يعني ذلك بالفعل أن بوتين يستعد لاستهداف كييف، وتوسيع نطاق المعركة ونقلها مجدداً إلى كل المناطق الأوكرانية كما برز في الشهر الأول من الحرب؟
لا يمكن التكهن بإجابة محددة عن السؤال، كما يقول خبراء روس تحدثت إليهم «الشرق الأوسط». إذ برزت ترجيحات متباينة حول هذا الأمر، وبدا واضحاً أنه لا يوجد إجماع على هذه النقطة.
من جهة، لا يستبعد البعض أن تكون إشارة بوتين مقصودة لجهة توسيع مساحة السيطرة العسكرية المباشرة في مناطق جديدة فشلت موسكو سابقاً في اجتياحها، مثل خاركيف وميكولايف وبعض الأجزاء الأهم من زاباروجيه ومناطق استراتيجية عدة تقع في محيط الدونباس.
يبدو هذا الهدف امتداداً طبيعياً من وجهة نظر هذا الفريق من المحللين للنتائج التي وصلت إليها العملية العسكرية حتى الآن. ولسعي موسكو إلى مواجهة «الهجمات المضادة» من جانب أوكرانيا... التي اتخذت بعداً أكثر خطورة مع تكثيف استخدام الصواريخ الأميركية وسلاح المدفعية وتقنيات الطائرات الهجومية المسيرة من دون طيار.

- حسابات واحتمالات
في حال صحّت هذه التوقعات فإن موسكو مع غياب أفق التسوية السياسية ستذهب نحو تعزيز قبضتها في المناطق التي سيطرت عليها وفرض أمر واقع جديد على الأرض يمنع محاولات استعادتها. لكن في المقابل، يرى آخرون أن رسالة بوتين بقدر ما هي موجهة إلى الداخل الأوكراني، فهي موجهة إلى الغرب بدرجة أقوى.
بهذا المعنى فإن التلويح لا يتعلق بحسابات توسيع السيطرة الميدانية بقدر ما يستهدف توجيه رسائل حازمة في إطار السجالات المتواصلة بين روسيا و«ناتو» على ملفات تسليح أوكرانيا وتعزيز الوجود العسكري على طول الحدود مع روسيا وجارتها الأقرب بيلاروسيا.
هكذا، فإن بوتين يضع عملياً، وفقاً لوجهة نظر هذا الفريق، أوراقه التفاوضية على الطاولة، بعد حسم معركة الدونباس، عبر التلويح بقدرته على توسيع مساحة المعركة ووضع أهداف جديدة «أكثر جدية» في حال لم تجد موسكو تجاوباً مع شَرطيها الرئيسيين لإطلاق عملية سلام: الأول استسلام أوكرانيا وقبولها شروط الكرملين المعلنة، والآخر توقف الغرب عن ضخ مزيد من الأسلحة وإطلاق آلية للحوار لا تقتصر على تسوية في أوكرانيا بقدر ما تشمل مسائل حيوية أخرى بينها نشر الأسلحة ومواصلة سياسات تطويق روسيا عسكرياً واقتصادياً.
في الحالين، يُبدي بوتين تصميماً على رفض موسكو التراجع في أوكرانيا قبل الوصول إلى تسوية مُرضية تلبّي مطالبها الأمنية الاستراتيجية.
بالتوازي مع هذا المسار، فقد فرض اقتراب الكرملين من إنجاز هدف السيطرة الكاملة على منطقة الدونباس، تنشيط النقاش في الدوائر الروسية حول السيناريوهات المحتملة للتعامل مع «الأراضي المحررة»، وسط تأكيد متواصل على مستوى البرلمان والأحزاب الكبرى في البلاد على أن النتيجة الطبيعية هي ضم تلك المناطق إلى الدولة الروسية وتكريس تقسيم أوكرانيا عملياً إلى شطرين:
الأول، الشطر الغنيّ بموارده الطبيعية وامتداده على البحار الدولية وحركة نقل البضائع، وهو يدخل «طواعية» تحت السيادة الروسية.
والآخر، يبقى منهكاً اقتصادياً ومعيشياً ومصيره معلقاً بالغرب الذي سيرث تركة ثقيلة وسيكون عليه أن «يطعم ملايين الأوكرانيين» الموزعين بين الولاء لبولندا أو رومانيا أو بلدان أخرى.
وهكذا، مع تركيز الضغط العسكري الروسي في منطقة دونيتسك لإحكام السيطرة عليها، بعد الإعلان قبل أيام عن «استكمال تحرير كل أراضي لوغانسك» طغت مسألة مستقبل «الأراضي المحررة» على النقاشات الدائرة. وجاء هذا متزامناً مع مواصلة موسكو خطوات تشكيل الهياكل القيادية في الأقاليم الأوكرانية التي انتقلت إلى السيطرة الروسية.
لقد كان لافتاً لجوء الكرملين إلى تعيينات جديدة في هذه الهياكل غلب عليها تكليف مسؤولين روس بشغل المواقع الرئيسة فيها بشكل مباشر، بدلاً من الاكتفاء بالاعتماد على الانفصاليين الأوكرانيين. وخلال الأسبوع الأخير، غدت منطقة زاباروجيه التي تسيطر موسكو على نحو ثلثيها، الأخيرة من بين أربع مناطق في شرق أوكرانيا تم تعيين مواطنين روس في مناصب رسمية فيها. ولفت التطور إلى أن سياسة إنشاء إدارات عسكرية - مدنية تعتمد بشكل أساسي على موظفين محليين في المناطق الانفصالية الخارجة عن سيطرة أوكرانيا لم تُثبت فاعلية كافية بالنسبة إلى الكرملين.
هذا ما أظهره، على سبيل المثال، تفويض مسؤولين روس لشغل مناصب قيادية في إقليمي لوغانسك ودونيتسك، بينما في منطقة خيرسون -التي وقعت تحت السيطرة الروسية بالكامل في مارس الماضي- فقد تم تشكيل رأس هيكلية السلطة بالكامل من شخصيات روسية.

- ضم الأراضي يتسارع
أظهرت هذه التطورات أن عملية ضم هذه الأراضي إلى الاتحاد الروسي آخذة في التسارع، رغم أنه ليس من الواضح بعد، كيف سيجري تنظيم هذا المسار، وما إذا كان سيناريو القرم قابلاً للتكرار في مناطق الشرق الأوكراني، أي عبر القيام بضم مناطق جديدة إلى روسيا بعد تنظيم استفتاءات صورية فيها.
بيد أن الأهم من ذلك، وفقاً لخبراء، أنّ التعيينات المعلنة في الجزء الخلفي القريب من خطوط تماس العملية الخاصة، عكست حرص الكرملين على وجود شخصيات عسكرية موالية بشكل كامل للقيادة الروسية.
وفقاً لهذا المسار جاء إعلان فولوديمير روغوف، عضو «الإدارة العسكرية المدنية» التي عيّنتها موسكو في زاباروجيه، عن قرار رئيس هذه الإدارة يفغيني باليتسكي بتعيين نائبين جديدين له هما أندريه كوزينكو، النائب السابق في مجلس الدوما عن شبه جزيرة القرم، وفيكتور إميليانينكو، الذي كان حتى عام 2014 النائب الأول لرئيس مقاطعة زاباروجيه قبل أن ينتقل إلى معسكر الكرملين. وحدد روغوف أن «إميليانينكو سيتعامل مع قضايا التكامل السياسي (مع روسيا)، وكوزينكو سوف يتولى ملف التكامل الاقتصادي».

- مفاوضات الإلحاق
بهذا الشكل سيتولى المسؤولان المفاوضات الهادفة إلى وضع مسار التحاق الإقليم بروسيا، بينما يُطلب من القرم إقامة اتصالات تجارية واقتصادية بين المنطقة وشبه الجزيرة. ولفتت تقارير وردت ممّا تسمى «الأراضي المحررة الأخرى في أوكرانيا»، بما في ذلك لوغانسك ودونيتسك، إلى أنه «ستكون هناك قريباً تعيينات أخرى في زاباروجيه، معظمها من بين التكنوقراطيين الروس».
في السياق ذاته، جاءت التعيينات الجديدة في خيرسون المجاورة لاحقاً، وأصبحت الحكومة الجديدة في منطقة خيرسون، يسيطر عليها العنصر الروسي بالكامل، وبدأت تعمل بكامل طاقتها.
حصل هذا بعد تعيين النائب الأول السابق لرئيس الوزراء في حكومة منطقة كالينينغراد، سيرغي إليسيف، رئيساً لـ«حكومة» الإقليم. وتدل سيرته الذاتية على أنه شغل مناصب بارزة في هيئة (وزارة) الأمن الفيدرالي الروسي بين عامي 1993 و2005، كما جرى تعيين مسؤول آخر كان يشغل مناصب مهمة في إدارة السياسات الزراعية.
اللافت أنه مع تشكيل «حكومة الإقليم» بهذه الطريقة، لم يُعلن حتى الآن عن انتهاء صلاحيات «الإدارة العسكرية المدنية» التي عيّنتها موسكو فور فرض سيطرتها في الإقليم. ويقول خبراء إنه جارٍ تفسير ذلك بأن موسكو تفحص عبر آليات التنفيذ العملية إمكانية تكرار نموذج إدارة الكيانات المكوِّنة للاتحاد الروسي في المناطق الأوكرانية التي تعمل على توطيد سيطرتها فيها. وبهذا المعنى فإن تعيين حكام الأقاليم يمنحهم صلاحيات تنفيذية واسعة يمكن للحاكم (رئيس الإقليم) أن يتولاها بنفسه أو يكلف بها أقرب مساعديه.


مقالات ذات صلة

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

أوروبا جنود أوكرانيون يستعدون لتحميل قذيفة في مدفع هاوتزر ذاتي الحركة عيار 122 ملم في دونيتسك أول من أمس (إ.ب.أ)

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية منشأة للبنية التحتية لتخزين الوقود في منطقة أوريول بوسط روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يدعو إلى  تحرك غربي ضد روسيا بعد الهجمات الأخيرة

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب إلى التحرك في أعقاب هجوم صاروخي جديد وهجوم بالمسيرات شنتهما روسيا على بلاده

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين: التصريح الأخير لترمب بشأن أوكرانيا «يتماشى تماماً» مع الموقف الروسي

نوّه الكرملين الجمعة بالتصريح الأخير لدونالد ترمب الذي اعترض فيه على استخدام أوكرانيا صواريخ أميركية لاستهداف مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا القوات الأوكرانية تقصف مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف (أ.ب)

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

كشف أندريه يرماك رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس (الخميس) إن كييف ليست مستعدة بعد لبدء محادثات مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عسكري أوكراني يحتمي أمام مبنى محترق تعرَّض لغارة جوية روسية في أفدييفكا (أ.ب)

قتال عنيف... القوات الروسية تقترب من مدينة رئيسية شرق أوكرانيا

أعلنت القيادة العسكرية في أوكرانيا أن هناك قتالاً «عنيفاً للغاية» يجري في محيط مدينة باكروفسك شرق أوكرانيا، التي تُعدّ نقطة استراتيجية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.