لاجئو الروهينغيا.. ثمن الهروب من القمع

العالم يتفرج على أكبر تحد آسيوي منذ حرب فيتنام.. و5 دول مجاورة ترفض وجودهم.. أو استقبالهم

لاجئو الروهينغيا.. ثمن الهروب من القمع
TT

لاجئو الروهينغيا.. ثمن الهروب من القمع

لاجئو الروهينغيا.. ثمن الهروب من القمع

مع تواصل كفاح أوروبا مع نصيبها المقسوم من مشكلات المهاجرين القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط، الفارين جراء الحرب والفقر والاضطهاد في أوطانهم، تتبدى على الجانب الآخر من العالم في جنوب شرقي آسيا أزمة جديدة للاجئين؛ حيث يخاطر المئات، بل والآلاف من المهاجرين بحياتهم على قوارب يعبرون بها إلى الدول المجاورة غير المرحبة بهم.
يغامر المئات والآلاف من مسلمي طائفة الروهينغيا في ميانمار وأصحاب الفقر المدقع في بنغلاديش بأرواحهم في قوارب تجوب بحر اندامان، وصولا إلى سواحل تايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا، محاولين الدخول إلى تلك البلدان المذكورة بحثا عن حياة أفضل.
الفارق الوحيد بين هاتين الهجرتين هو، على العكس من الاتحاد الأوروبي، أن مجموعة دول الآسيان (رابطة دول جنوب شرقي آسيا)، تعمل على طرد اللاجئين إلى أوطانهم خشية زيادة وطأة الأعباء الأمنية، والمالية، أو وقوع أزمة إنسانية، ولا يقدمون إلا النذر اليسير لمجرد مناقشة الوصول لحل دولي لأزمتهم.

ظلت الحدود التايلاندية – الماليزية - الإندونيسية، ولسنوات طويلة، نقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير الشرعيين، الذين يستخدمون سبيلا معروفا جيدا، ويغادرون على متن قوارب متهالكة عبر بحر اندامان وخليج البنغال إلى بحار تايلاند، ثم إلى سواحل ماليزيا. يأتي اللاجئون من المجتمعات المسلمة في ميانمار المعروفون باسم الروهينغيا. كما تتوافد أعداد كبيرة من المهاجرين لأسباب اقتصادية من بنغلاديش، مما يزيد الأزمة تعقيدا.
ولكن هذا العام، ومع الحقائق المروعة التي تتكشف من السفن الغارقة والوفاة الناجمة عن سوء التغذية مع فرار المهربين من شحناتهم البشرية في البحر والمعسكرات، وزيادة نشاط الدوريات من قبل حكومات ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا على الطرق البرية المعتادة والحملات التي تشنها على شبكات التهريب، فإن أزمة اللاجئين استرعت اهتماما وانتباها دوليا كبيرا.
كما تم العثور على مقابر جماعية مؤخرا في ماليزيا بالقرب من الحدود مع تايلاند، مما يضيف إلى سلسلة المقابر المكتشفة بالفعل في تايلاند، وزاد من انخراط العالم في أزمة اللاجئين هناك.

سبب الأزمة

إن الأسباب معقدة ومتشابكة. بدأت المشكلة في ميانمار أو بورما، المستعمرة البريطانية السابقة، التي تسم سكانها من الروهينغيا البالغين 1.3 مليون نسمة بـ«الأجانب التابعين لبنغلاديش» المجاورة، وتفرض عليهم قيودا قمعية قاسية وتحرمهم من حق المواطنة، على الرغم من أن كثيرا منهم تعود أصولهم إلى أجيال سابقة.
وساءت الأمور منذ 2012 حينما أسفرت الاشتباكات مع البوذيين عن مقتل 200 شخص، وترك عشرات الآلاف من مسلمي الروهينغيا أسرى مخيمات اللاجئين المتواضعة. وهم لا سلطة لهم في البلاد ذات الأغلبية البوذية، وبالتالي يفرون من التمييز على يد أغلبية ميانمار من البوذيين والاضطهاد الحكومي خوفا على حياتهم.
ومع ذلك، فإن لاجئو بنغلاديش الذين يمرون من الطرق البحرية الخطيرة سعيا للجوء السياسي يفعلون ذلك هربا من الظروف الاقتصادية الطاحنة في بلادهم. وبالتالي، فإن السبب الأساسي لمآسي المهاجرين هو مواقف وسياسات الدول المعنية بالأزمة، بنغلاديش وميانمار على وجه التحديد.
ثانيا، يتلقى شركاء ميانمار من رابطة دول الآسيان قدرا من اللوم كذلك، كما يقول النقاد، لتوفير عامل «الجذب»، متجاهلين الطريقة التي يصل بها المهاجرون غير الشرعيين إلى بلادهم، ويستغلونهم في العمال الرخيصة ويمنعون عنهم أبسط حقوق الحماية الأساسية.
يقول البروفسور سي. ماهاباترا من جامعة دلهي: «الآن وبعد تفاقم المشكلة، يسلط الضوء على الحكومات للتصرف». ويعتقد أن المسؤولين الفاسدين في كثير من بلدان رابطة دول الآسيان يساعدون في تسهيل تدفق اللاجئين غير الشرعيين.
ويجني تجار البشر الجشعون بصورة متزايدة كثيرا من الأرباح، حتى إنهم تحولوا مؤخرا إلى توفير المرور المجاني لبعض المهاجرين. إن فشل كثير من دول رابطة الـ«آسيان» في الالتزام بالعهود الدولية لحقوق الإنسان، ونقص التكامل بين مسؤولي إنفاذ القانون هناك والنظم القانونية المختلفة، أدى إلى انفجار الأزمة.
يقول راجا موهان، وهو معلق سياسي مقيم في دلهي: «لسنوات عدة، أدى اضطهاد وحرمان الروهينغيا، إلى تفكير عائلات بأسرها في أنهم لا خيار أمامهم سوى محاولة الهجرة إلى دول أخرى. يتعين على ميانمار إيقاف الاضطهاد بحق الروهينغيا، وكذلك يجب أن تهدأ الظروف القهرية للغاية في بنغلاديش، كما ينبغي مواجهة الاتجار في البشر والفساد من قبل الحكومات فقط»، مضيفا أن كل الدول الكبرى، ومن بينها الدول ذات النفوذ والتأثير على ميانمار مثل كندا والولايات المتحدة، شاهدت الحكومة وهي تمارس الاضطهاد بلا هوادة ضد الروهينغيا، وتجبرهم على مغادرة منازلهم إلى معسكرات الاعتقال، وتحرمهم من حقوق مثل التعليم والوظائف والرعاية الصحية.
في الوقت ذاته، فإن رابطة الـ«آسيان» التي تعد ميانمار أحد أعضائها، لديها واحد من المبادئ الأساسية لعدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء بالرابطة. وقد واجهت المنطقة الانتقادات حيال دبلوماسيتها الخجولة، خصوصا فشلها في كبح ما يعرف بأنه الإساءة المنظمة من الأغلبية البوذية تجاه أقلية الروهينغيا المسلمة غير المرغوب فيهم، مما دفع الآلاف من الأقلية المسلمة للفرار نحو الخارج. تصر ميانمار على أن الروهينغيا من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من بنغلاديش المجاورة وأنها غير مسؤولة عنهم.
وتعجز رابطة دول الـ«آسيان» عن فرض إرادتها السياسية، خصوصا بالنظر إلى التحدي الجديد من واقع أن إحدى دول الرابطة - ميانمار - تعد من أكبر مصادر اللاجئين، حسبما يقول المحللون.
يقول البروفسور غولشان ساشديفا من دلهي، وهو مختص في دراسات كتلة الـ«آسيان»: «الآن عادت المشكلة لتؤرق كتلة الـ(آسيان) منذ أن غضت الطرف عن مجازر ميانمار ضد الروهينغيا. هناك كثير من طبقات التعقيد تشوب تلك الأزمة، ومن بينها سياسة عدم التدخل وعدم انتقاد الحكومات الأعضاء في الرابطة بأساليب أرست لسوابق لا توفر الارتياح للدول الأعضاء. ويبدو أن الرابطة غير مستعدة للتعامل جديا مع قضية المهاجرين».
ونقلت صحيفة «بانكوك بوست» عن ألان تشونغ، من كلية «سان راجاراتنام للدراسات الدولية»: «للعمل على تعزيز عامل (الدفع)، يبدو أن رابطة الـ(آسيان) سوف تنتهج سياسة الدبلوماسية الهادئة التي تحفظ ماء وجه حكومة ميانمار. ومع زيادة الاستثمارات القادمة من جنوب شرقي آسيا منذ الانفتاح السياسي لميانمار في عام 2011، فإن البلاد قد تكون عرضة بصورة متزايدة للنفوذ الخارجي».

الموانع

واجهت كل من ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند الانتقادات الدولية لطرد السفن المليئة بمئات المهاجرين المرضى والجوعى، مما يبدو أنه قلق من أن تكون رسالة إيجابية لمجيء المزيد من المهاجرين. يوجد حاليا في ماليزيا أكثر من 45 ألف لاجئ من مسلمي الروهينغيا وطالبي اللجوء السياسي، وفقا لوكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
يقول السيد انيفا، وزير الشؤون الخارجية الماليزي: «قلت مسبقا إننا لا نستطيع قبول المزيد منهم، حيث إن أعدادا كبيرة موجودة على أراضينا بالفعل، وحتى الآن لا توجد دولة تريد استقبالهم». وقال برايوث تشان أوشا، رئيس وزراء تايلاند، إن بلاده ليست لديها القدرة على التعامل مع تدفق المهاجرين، و«من أين نوفر لهم الميزانية؟».
يقول سيد حامد البار، وزير خارجية ماليزيا الأسبق ومبعوثها الحالي في قضية الروهينغيا لدى منظمة التعاون الإسلامي: «إذا استقبلت دول المنطقة لاجئي الروهينغيا، فسوف تصل الرسالة وتتشجع ميانمار على طرد المزيد من سكان تلك الأقلية خارج البلاد»، وفقا لصحيفة «ستريت تايمز».
ويسعى لاجئو الروهينغيا حاليا إلى التأقلم على حياة اللجوء في مخيم «بيرم باين» بمنطقة آتشيه الشرقية بإندونيسيا، الذي نقلتهم إليه الحكومة الإندونيسية، عقب انتشالهم من عرض البحر الذين كانوا عالقين فيه، بعدما تخلى عنهم المهربون الذين وعدوهم بإيجاد عمل لهم في ماليزيا وتايلاند، مقابل مبلغ من المال. ووزعت السلطات الإندونيسية، ملابس وأغذية على اللاجئين الذين يعانون من مشكلات صحية نتيجة بقائهم فترة طويلة في البحر، حيث يخضعون لرعاية طبية في المخيم. وأوضح اللاجئ محمد راشد، الذي وصل للمخيم قبل أيام، أنه كان عالقًا في البحر منذ 4 أشهر، بعدما تعرض للطرد من ميانمار «بقوة السلاح» مضيفًا: «نُقلنا عبر قوارب إلى سفينة تنتظر في البحر بين بنغلاديش وميانمار، على شكل دفعات مؤلفة من 13 شخصًا».
وأردف راشد: «كنا في السفينة 450 شخصًا، واستطعنا البقاء على قيد الحياة عبر تناول 10 كيلوغرامات من الأرز فقط. قبطان السفينة البوذي تركنا، وأنقذنا صيادون إندونيسيون». وذكر مسؤولون إندونيسيون أنهم نقلوا 357 روهينغيًّا بينهم 84 طفلاً، إلى مخيم «بيرم باين» الذي أقيم حديثًا في آتشيه الشرقية.
وحتى الآن لا توجد معلومات دقيقة حول عدد العالقين في عرض البحر، من المهاجرين الروهينغيين والبنغال، حيث أفادت بعض الأنباء سابقا أن عدد المهاجرين الذين تركهم مهربو البشر عالقين في البحر بلغ قرابة 4 آلاف مهاجر، بينما أعلنت مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين في وقت سابق، أن عددهم بلغ 2000 مهاجر.

الحالة الراهنة والحلول الممكنة

بعد المزيد من الضغوط الدولية والانتقادات، وافقت رابطة الـ«آسيان» على العمل معها ومحاولة إيقاف أزمة المهاجرين في المنطقة.
وافقت الدول على تكثيف عمليات البحث والإنقاذ فضلا عن التعامل مع الأسباب الجذرية لمشكلة الهجرة من خلال مؤتمر إقليمي يعقد في بانكوك. وصرحت كل من ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا، التي عارضت من قبل استقبال اللاجئين، بأنها سوف تستمر في توفير الملاجئ المؤقتة للمهاجرين، شريطة أن يعيد المجتمع الدولي توطينهم أو إجلائهم في غضون عام.
في الأثناء ذاتها، وفي أول محاولة دولية حقيقية للوصول إلى حل جماعي ومستديم لأزمة الروهينغيا، أو تحريا للدقة، الاجتماع الخاص حول الهجرة غير النظامية في المحيط الهندي (كما يعرف نظرا لتهديد ميانمار بعدم الحضور إذا ما استخدم اسم «الروهينغيا») الذي عقد يوم 30 مايو (أيار) الماضي في بانكوك، فقد شاركت فيه 17 دولة، ومن بينها مجموعة دول رابطة الـ«آسيان»، وأستراليا، وممثلون عن المنظمات الدولية مثل وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة.
ومع مشاركة كثير من الدول - ومن بينها ميانمار – فإن هذا يعد تقدما ملحوظا في حد ذاته. وكانت أكثر النتائج تشجيعا هو الإجماع العام على مواصلة استمرار تلك المناقشات. ورغم ذلك، لم يسفر الاجتماع عن أي حلول كبرى، واتفقت الوفود المشاركة على مواصلة المباحثات والاستعداد حاليا لتوفير الإنقاذ والمأوى المؤقت للاجئين. وجاءت الجهود السابقة بلا نتائج تذكر نظرا لعدم مشاركة ميانمار فيها.
وقد أقرت ميانمار بالمخاوف الدولية حيال ركاب القوارب المهاجرين، ولكنها رفضت تلقي اللوم إزاء ذلك بمفردها. كما وافقت بنغلاديش أيضا على التعامل مع الجذور الأصلية للأزمة والعمل بالتنسيق مع رابطة الـ«آسيان». ويأمل وزير الخارجية الماليزي داتوك سيري انيفا أمان، في الوصول إلى خطة تقدم إلى دول رابطة الـ«آسيان» العشر التي تترأس ماليزيا دورتها الحالية. وتعهدت الولايات المتحدة الأميركية بمبلغ 3 ملايين دولار وتعهدت أستراليا بمبلغ 4.6 مليون دولار في حزمة للمساعدات الإنسانية في ميانمار.
في الوقت ذاته، قالت الفلبين إنها على استعداد للمساعدة في أزمة مهاجري القوارب، مما يزيد من الآمال لوصول إلى حل ممكن حيث يطرد جيرانها المهاجرين بعيدا.
حتى الولايات المتحدة عرضت استقبال بعض من أكثر الضحايا تضررا، مما يعد اختبارا حقيقيا لرابطة الـ«آسيان» البالغة من العمر 48 عاما، فعليها العمل بصفتها رابطة لها صوت واحد، وإلا سوف تبعث برسالة شديدة السلبية. وتحت حكم التاريخ، فإن تلك الالتزامات طويلة الأجل، خصوصا من الناحية المالية، غالبا ما تواجه التعقيد في منتصف الطريق حينما لا توجد تغطية إعلامية مناسبة للقضية، إلى جانب الديناميات المحلية المجتمعية؛ حيث إن الأموال المتعهد بها في اجتماع بانكوك ضئيلة للغاية، وهناك حاجة إلى مزيد في المستقبل.
تأتي تلك الأزمة بوصفها أكبر اختبار تواجهه رابطة الـ«آسيان» منذ حرب فيتنام، حتى لو استطاعت الرابطة حماية حياة المهاجرين، وإلى أي مدى يمكن للرابطة مواجهة أحد أعضائها في هذه القضية، وفي هذه الحالة هي ميانمار. إن الرهانات عالية، نظرا للاهتمام العالمي والأزمة المتفاقمة، واحتمال وفاة كثير من المهاجرين إذا لم تستقبلهم أي دولة من دول الجوار.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.