في كتابه الجديد «مارتن سكورسيزي سينما البطل المأزوم»، الصادر أخيراً ضمن مطبوعات «مهرجان أفلام السعودية»، يبحث الناقد السينمائي المصري أمير العمري، في التجربة السينمائية للمخرج الأميركي ذي الأصول الإيطالية، التي تضمنت 25 فيلماً طويلاً، وعدداً من الأعمال التسجيلية. وقبل ذلك، يستعرض العمري الخلفية الحياتية لسكورسيزي، معتمداً على ما ورد في فيلمه التسجيلي «إيطالي - أميركي»، وهو عبارة عن حوارات طويلة من وراء الكاميرا، صورها سكورسيزي مع والديه في شقتهما الصغيرة عام 1974، بعد أن كان قد حقق «الاختراق الأول الكبير» بفيلمه «الشوارع القذرة».
تضمن الكتاب 17 مقالاً نقدياً عن أفلام سكورسيزي السينمائية الطويلة، منها «من ذا الذي يطرق بابي»، و«تدريب على العنف»، و«في الشوارع القذرة»، و«من المغنية إلى سائق التاكسي»، و«مأزق الثور الهائج»، و«ثلاث شخصيات مأزومة»، و«الأولاد الطيبون» و«العودة إلى العائلة»، و«منطقة الرعب: المواجهة والانتقام والخلاص»، و«الحلم الأميركي: هرم من ورق»، و«عصابات نيويورك»: تاريخ العنف الأميركي».
ومن أكثر التقاليد التي تتبدى في هذه الأفلام، كما يكتب الناقد، الارتباط بالعائلة، وتقديسها والولاء للأقارب، والصداقة التي تجمع أبناء المجتمعات الصغيرة من ذوي الأصول الإيطالية، وحب الموسيقى واللهو، والاهتمام الكبير بالطهو والأطعمة الإيطالية الشهيرة، وتصوير كيف أصبح «البادرون» أو كبير الجماعة أو «الأب الروحي - العراب»، بديلاً عن سلطة الدولة، والملجأ ومصدر الحماية والأمان أكثر من مؤسساتها المتعددة الأصول. وليس المقصود من بروز شخصية «البادرون» في الأفلام، كبار رجال المافيا فقط، «الرجل الكبير» عموماً، الذي يمنح الحماية ويصبح الملجأ والملاذ. وقد برز هذا الدور أساساً كرد فعل لعنصرية التجمعات المهاجرة الأخرى إزاء الإيطاليين. وكان «البادرون» قد أصبح دوراً نمطياً في أفلام هوليوود قبل أن يصبح «أيقونة» على أيدي الجيل الجديد من المخرجين ذوي الأصول الإيطالية الذين ظهروا في الستينات والسبعينات، سواء كان هذا «الرجل الكبير»، شريراً، أم رومانسياً، أو مزيجاً من الاثنين، حيث يبدو مدفوعاً إلى الشر بحكم قوة قدرية لا يملك منها فكاكاً.
ويشير العمري إلى أن شخصيات أفلام سكوسيزي لا تنطلق من اختيارات مسبقة، بل من أقدار وأحداث تتوالى، تجعلها تجد نفسها وقد أصبحت طرفاً فاعلاً فيها، دون إرادتها أحياناً وبرغبتها أحياناً أخرى، فهي تبدو مدفوعة بالإغواء في تحقيق الثراء والصعود أياً كانت الوسيلة، ولا تستفيق إلا حين تدرك أنها صنعت هرماً من الرمال والأوهام مهدداً بالسقوط والانهيار، يبدو هذا في بطله «تشارلي»، في فيلم «الشوارع القذرة»، الذي يحاول تحقيق التوازن بين الإخلاص للصداقة من ناحية، والولاء للعائلة والقيم الكاثوليكية من ناحية أخرى، لكن من دون أن يستطيع التخلي عن حياة الإجرام التي يجد فيها تحقيقاً لذاته، كما تداعب أحلامه في الصعود وتحقيق الثراء في مجتمع يشعر فيه بأنه على «الهامش»، فلا يجد مناصاً من قبول العمل المعروض عليه من «البادرون»، وهو عمل «لا يمكنه أن يرفضه»، حسب العبارة الشهيرة من فيلم «الأب الروحي».
وفي فيلم «رفاق طيبون»، ينغمس البطل في حياة الجريمة من خارج التركيبة الإيطالية، هو الآيرلندي الأصل المدفوع بإعجابه الطفولي بأبطاله الخرافيين، أبطال الجريمة. وعندما يرى أن الأمور قد خرجت عن نطاق العقل والمنطق والسيطرة وأصبح مهدداً مع عائلته الصغيرة بالفناء، يقرر خيانة «العائلة» الكبيرة، عائلة الجريمة المنظمة، التي لم يكن أصلاً جزءاً عضوياً فيها، بل كان على الهامش. وهذا السلوك المدفوع أولاً بفكرة «البطولة»، والعثور على بديل يوفر الحماية، ينتهي إلى الرغبة في النجاة.
أما «ترافيس بيكل» بطل فيلم «سائق التاكسي»، فيمنح نفسه مهمة تخليص العالم من الشرور بدافع ديني كاثوليكي استمده من أصوله الإيطالية، وهكذا يمضي في طريق العنف الدموي، وكأنه تحت تأثير عقار منوم، ونتيجة الخلل الذي اعترى شخصيته في «فيتنام»، أي أن الأحداث هي التي صنعته ولم يصنعها هو، مثل معظم شخصيات أفلام سكورسيزي.
وهكذا يتجلى الصراع بين الروح والجسد، والرغبة في الحياة الحرة بعيداً عن القيود، والتمسك بالأخلاقيات والمبادئ المستمدة من تعاليم الكنيسة، محوراً للكثير من شخصيات أفلام سكورسيزي، حيث تبدو براعته في رسم ملامح شخصياته ليبرز الجانب المأساوي الكامن فيها، والنتائج التي تسفر عن ذلك الصراع الذي يدور في داخلها، بين الجيد والسيئ، وبين السلبي والإيجابي.
ولفت العمري إلى أن سكورسيزي مخرج «نيويوركي»، تماماً، فالغالبية العظمى من أفلامه ترتبط بنيويورك المدينة، وتعد على نحو أو آخر، تفصيلاً لها ولأحيائها الهامشية، ونوعاً من «اليوميات» التي ترتبط بها، وما يحدث في أركانها المظلمة وشوارعها التي بدت عند سكورسيزي، ضيقة ترتبط بحي «إيطاليا الصغيرة»، الذي نشأ فيه. إلا أن سكورسيزي رغم ولعه الخاص بنيويورك، خرج أيضاً في مرات كثيرة، خارج نيويورك. في فيلمه الثاني «بوكسكار بيرثا» الذي أخرجه عن سيناريو قدمه له منتج أفلام الإثارة، روجر كورمان، يعود إلى فترة الكساد الكبير في الثلاثينات في ولايات الجنوب الأميركي.
ومن أهم مميزات سينما سكورسيزي، حسب العمري، اهتمامه الشديد بحركة الكاميرا الطويلة التي تتابع الممثلين بشكل مدروس بكل تفاصيله من ناحية الإضاءة والديكور وحركة الأشخاص ووجود الإكسسوارات وتوزيعها وتوزيع الكتل، وغير ذلك، وكلها تقتضي تدريباً دقيقاً مسبقاً. والعنصر الثاني هو عنصر التمثيل الذي كثيراً ما يقتضي تدريب الممثل تدريباً طويلاً مرهقاً على أداء الدور، خصوصاً أن سكورسيزي عمل في عشرة أفلام مع الممثل روبرت دو نيرو، ثم في ستة أفلام مع ليوناردو دو كابريو. ويجب أن نلاحظ أن كليهما من أصول إيطالية مثله. أما العنصر الثالث فهو عنصر الموسيقى التي يستخدمها سكورسيزي، لا كمجرد غطاء للمشهد، بل للتعبير الدرامي، أو لتكثيف المشاعر تجاه الحركة والأداء والموقف داخل المشهد الواحد، أو سلسلة المشاهد. فهو يجيد اختيار موسيقاه وأغانيه بحكم ثقافته الموسيقية العميقة. وهي حيناً موسيقى صاخبة عنيفة أو أوبرالية، حيث تمكن من تحويل مشاهد العنف والحب والجريمة في أفلامه إلى ما يشبه الأوبرا، من خلال حركة الكاميرا والممثلين، والموسيقى.
يذكر العمري أن سكورسيزي ليس مجرد مخرج سينمائي يصنع الأفلام، بل مثقف من طراز رفيع، يعرف جيداً تاريخ السينما، ويهتم اهتماماً خاصاً منذ وقت مبكر بإنقاذ وترميم واستعادة الأفلام القديمة، وله دور مشهود في هذا المجال على مستوى العالم، من خلال المؤسسة التي تحمل اسمه. وقد صنع واحداً من أهم الأفلام التي تروي تاريخ الفيلم الأميركي هو فيلم «قرن من السينما» الذي يروي فيه كيف أصبح مولعاً بالسينما، وعشق الأفلام الأميركية من حقبتي الأربعينات والخمسينات. وإلى جانب اهتمامه يعد سكورسيزي أحد أكبر السينمائيين الأميركيين اهتماماً بالسينما الأوروبية الحديثة وبالحركات السينمائية التي غيرت وجه السينما في العالم مثل الواقعية الجديدة الإيطالية والموجة الجديدة الفرنسية.
«سينما البطل المأزوم»... أقدار تصنع شخصياتها المأساوية
17 مقالاً نقدياً عن أفلام سكورسيزي وخلفيته الحياتية
«سينما البطل المأزوم»... أقدار تصنع شخصياتها المأساوية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة