أديب الشيشكلي الذي أصبح «ديكتاتوراً رغماً عنه»

«الحقيقة المغيبة» يتضمن وثائق وشهادات عنه تُنشر للمرة الأولى

أديب الشيشكلي الذي أصبح «ديكتاتوراً رغماً عنه»
TT

أديب الشيشكلي الذي أصبح «ديكتاتوراً رغماً عنه»

أديب الشيشكلي الذي أصبح «ديكتاتوراً رغماً عنه»

على امتداد 573 صفحة، تتخللها وثائق وصور تُنشر للمرة الأولى، يقدّم الباحثان بسام برازي وسعد فنصة سيرة الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي (1909 - 1964) الذي اغتيل ولم يتح له مشوار العمر القصير تدوين مذكراته.
تُصدر «دار رياض الريس» كتاباً بمثابة شريط حياة لا تُقاس بطولها وعرضها، بل بوَقْعها على صفحات التاريخ.
يضع بسام برازي، وهو خريج جامعة تكساس في الهندسة المدنية ورئيس مجلس الإدارة لـ«النادي السوري الأميركي» في هيوستن، مع سعد فنصة، باحث وناشر سوري أميركي يعمل في واشنطن، بين يدي القارئ ما «لم تورده الإصدارات السابقة عن سيرة أديب الشيشكلي وحياته»، حسب الناشر. تتجلّى أهمية سرد حياة الشيشكلي والتأريخ لحقبته، كما أضاف، في أنّ «هذه الحقبة لا تزال حتى الآن موضوعاً للكثير من الكتب والأبحاث والبرامج المتلفزة التي ظهرت طوال العقود الماضية»، مع طرح سؤال تحاول الـ500 صفحة الإجابة عنه: «ما الذي يضيفه هذا الكتاب إلى كل ما سبق؟».
يشير برازي في مقدمته إلى هدف الكتاب، وهو الإضاءة على «سيرة واحد من الشخصيات العسكرية التي كان لها تأثير كبير في تاريخ سوريا المعاصر، وهي الفترة التي أعقبت جلاء الفرنسيين عن سوريا في 17 أبريل (نيسان) 1946.
وبالأخص مع بداية عصر الانقلابات العسكرية». وهو لا ينفي كون صاحب السيرة «شخصية إشكالية». ويوم اغتيل وهو في الرابعة والخمسين، «بقيت سيرته مبعثرة ومخفية في ثنايا الكتب والمراجع. وهو يرى أن التطرّق إلى هذه السيرة، هو «تطرّق إلى حقبة زمنية مهمة من تاريخ سوريا لم تكن منصفة، وكان مؤلفوها في أحيان يفسّرون الأحداث تفسيراً خاطئاً بحُسن أو سوء نية والنتيجة واحدة، وهي تصوير أديب الشيشكلي على أنه ديكتاتور، قاسي القلب، لا يتورّع عن سفك الدماء في سبيل الإمساك بالسلطة المطلقة، في حين أنه عفا حتى عن الذين حاولوا اغتياله». من هنا ينطلق تدوين السيرة، من فكرة «إنصاف» مَن رفع شعار «الجمهورية السورية لا تزول إلا على جثتي»، فقام بانقلابه الأول في 19 ديسمبر (كانون الأول) عام 1949 ثم تسلم السلطة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1951. ورغم عبوره بكل هذه المحطات، يستنتج الكاتب: «أقول بكل صدق وأمانة وحسب معرفتي بشخص أديب الشيشكلي وطبيعته، أنه أصبح ديكتاتوراً رغماً عنه».
الشيشكلي، وفق الكتاب، كان «قارئاً ممتازاً للتاريخ ونشوء الأمم، وسِير القادة والعظماء (...).
يتكلم كرجل دولة، لا كسياسي مهتم فقط بتحسين مركزه وإحراز مكاسب سياسية. وكان مستعداً لفعل أي شيء يحقق مصلحة الأمة حتى لو خسر من شعبيته أمام مزايدات السياسيين الشعبويين».
قبل الإجابة على سؤال «كيف جرى الاغتيال وما الأسباب، ولماذا نُفّذ في هذا التوقيت بالذات؟»، يبدأ الكتاب بسرد نشأة الشيشكلي والتحاقه بالمدرسة الحربية، ولا يغفل عن قصة زواجه. بحر من التفاصيل لمن يود التبحّر. وبين المعلومات، صور ووثائق تُكمل سيرته. 25 فصلاً تتناول محطته في «جيش الإنقاذ» عام 1948 وأبرز شهادات رفاقه عنه، إلى ما بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، ودوره قبل انقلاب حسني الزعيم، فانقلاب سامر الحناوي وما سببته قضية الهلال الخصيب والوحدة السورية العراقية بتحركات سياسية وشعبية في البلدين المجاورين، حتى انقلابه وخروجه بـ«بيان رقم واحد إلى الشعب السوري الأبي».
يكمل الباحثان تناول محطات ما بعد انقلابه حتى محاولة اغتياله حين أذاع وزير الدفاع فوزي سلو بلاغاً بتاريخ 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1950 ذكر فيه أنّ مجهولين اعترضوا سيارة عسكرية كانت في طريقها إلى دمشق وأطلقوا عليها الرصاص، فأصيب أحد الضباط بجراح، ولم يذكر البلاغ أنّ الشيشكلي نفسه كان في داخلها. وبعد الانقلاب الأول، انقلاب ثانٍ، ثم استعراض سياسات الشيشكلي الداخلية، فنهضة الاقتصاد الزراعي والازدهار الثقافي والاجتماعي، حتى وصوله إلى الرئاسة في 10 يوليو (تموز) 1953.
ويشمل الكتاب الدور البريطاني في دمشق، إلى أحداث جبل العرب وقضية ملاحقة سلطان باشا الأطرش، مع شهادات معاصرين لتلك الأحداث، وصولاً إلى الساعات الحاسمة والانقلاب على الشيشكلي. أما الختام، فمع استعادة الوضع السياسي بعد تنحّيه وسنواته الأخيرة وحادثة اغتياله. يُفرد الفصل الأخير لـ«حقيقة أديب الشيشكلي» والإجابة على سؤال «هل كان ديكتاتوراً؟».


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».