مقهى «ريش» بالقاهرة.. تاريخ ترويه فناجين القهوة ومستقبل مجهول

توفي صاحبه وأغلق للمرة الرابعة على مدار 107 أعوام

مدخل المقهى الذي كان قبلة أهل الفن والادب
مدخل المقهى الذي كان قبلة أهل الفن والادب
TT

مقهى «ريش» بالقاهرة.. تاريخ ترويه فناجين القهوة ومستقبل مجهول

مدخل المقهى الذي كان قبلة أهل الفن والادب
مدخل المقهى الذي كان قبلة أهل الفن والادب

كلمات وأبيات شعرية ولدت على طاولاته.. سمعتها الجدران ولا تزال ترددها.. استعانت بها على أفعال الزمن.. حفرت منها حكايات ورحلات كفاح لمثقفين مصريين وعرب وكتبت شهادات ميلادهم في عالم الأدب ووقعت عقود نشر وعقدت ندوات وصالونات. إنه مقهى «ريش» الذي كان غاية الموهوبين من الأدباء، رغبة منهم في لقاء النخبة المثقفة على مدار القرن الماضي، لكنه حاليا مغلق ويواجه مصيرًا يلفه الغموض عقب وفاة مالكه المصري مجدي عبد الملاك. للمقهى وريث وحيد يعيش حاليا في أميركا، وفور وفاة المالك اجتمع الأدباء والمثقفون المصريون الذين يرتكنون إلى «ريش» كلما حاولوا تلمس نفحات الوحي واستلهام لحظات لم يطمسها الزمن، وهم في حالة تضامن لم تحدث من قبل! إذ يساورهم قلق بالغ إزاء مصير المقهى.
وما بين مطالبات بضمه لوزارة الثقافة، وحملات لتسجيله كمبنى تراثي، خصوصًا وأنه تجاوز 100 عام، ومشاورات لتكوين مجلس أمناء لإدارة المقهى لكي لا يتحول إلى أحد فروع سلسلة مطاعم ومقاه عالمية، لا أحد يعلم مصير «ريش» لكن ما سيؤول إليه حال المقهى الذي خلدته أهم الأعمال الأدبية؛ سيكون بمثابة ورقة اختبار لما سيؤول إليه حال التراث الثقافي المصري الذي عاني من إهمال وتطاول ومحاولات تشويه كثيرة.
ويكمن القلق في كون مقهى «ريش» خاضعًا لقانون الإيجارات القديم في مصر، الذي ينص على عدم جواز عقد الإيجار إلا للوريث الأول، مما يشكل عائقا أمام توريثه لأجيال من أسرة الملاك المصريين، مما يؤشر بأن تصبح ملكيته لشركة الإسماعيلية المالكة للعقار الذي تقبع أسفله ريش هو أيضا أيقونة معمارية فريدة، فهو مشيد على أطلال أحد أمراء أسرة محمد علي باشا، وبني العقار الحالي عام 1908 على يد المليونير اليهودي السكندري «إبرام عاداة»، الذي كان يمتلك عقارات كثيرة في وسط القاهرة والإسكندرية، وقد اشترت عقار «ريش» شركة الإسماعيلية عام 2008، التي أكدت في أكثر من تصريح أنها ترغب في الحفاظ على هوية المقهى وطرازه المعماري لما يمثله من قيمة تاريخية واستمرار نشاطه كما كان على مدار القرن الماضي.
من جانبها، سعت الشاعرة والروائية الإماراتية ميسون صقر مؤخرًا للحفاظ على تراث المقهى ورقمنة كل ما فيه من وثائق وصور لتدشين موقع إلكتروني يليق بالمقهى العريق وتاريخه وأهميته، لكن حال مرض صاحب المقهى دون إطلاق الموقع.
بدأت حكاية «ريش» كمقهى مع الثري النمساوي «بيرنارد ستينبرج» في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1914، ومنذ تأسيسه سحب «ريش» البساط من المقاهي الأخرى في وسط القاهرة بديكوراته الخشبية المستلهمة من أجواء الريف الأوروبي. لكن بعد عام واحد اشتراه الفرنسي هنري ريسن، وأطلق عليه عام 1915 «ريش كافيه» تيمنًا بالمقهى الباريسي الشهير. لكن أثناء الحرب العالمية الأولى استدعي «ريسن» للخدمة العسكرية فاضطر لبيعه لليوناني «ميشيل بوليتسي» سنة 1916. ثم آلت ملكيته سنة 1932 لليوناني مانولاكس، وبعدها بعشر سنوات باعه لليوناني جورج إيفتانوس وسيلي، وكان ذلك عام 1942، وفي عام 1960 باعه وسيلي لموظف سكة حديد من الصعيد هو عبد الملاك ميخائيل ليصبح هو أول مالك مصري للمقهى.
تميز المقهى بطابع كلاسيكي هادئ يأخذك بعيدا عن وسط القاهرة الصاخب، لترحب بك صور عظماء المفكرين والفنانين الذين احتضنتهم جدرانه يوما، ما بين أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب، وروزاليوسف وتغريك الكتب القديمة وأحدث الإصدارات بالتهامها مع مشروبك المفضل وسط قطع أنتيكات أعطت للمكان رونقا خاصا.
هنا ارتشف القهوة نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، وأحمد فؤاد نجم، وعبده جبير وسليمان فياض، وسيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي، وبهاء طاهر، وإبراهيم عبد المجيد، وغيرهم من الناشرين والفنانين التشكيليين والصحافيين، ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها بالمقهى عصر يوم الجمعة منذ عام 1963. وحظي المقهى بأنه شهد مولد كوكب الشرق أم كلثوم، حينما تغنت به، مثلما غنى به صالح عبد الحي، وزكي مراد والد «ليلى مراد»، وقدمت على خشبته روزاليوسف أحد مسرحياتها.
وشهد مقهى «ريش» مولد الكثير من المجلات الثقافية، منها: «الكاتب المصري» التي رأس تحريرها طه حسين ومجلة «الثقافة الجديدة» و«جاليري 68»، وغيرها. وكان من رواد المقهى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والرئيس جمال عبد الناصر، والرئيس السادات والرئيس محمد نجيب قبل ثورة يوليو (تموز) 1952. وقد شهد الكثير من التجمعات السياسية وارتبطت شهرته أيضا بأنه كان مسرحا لعملية اغتيال رئيس وزراء مصر يوسف وهبة بك عام 1919.
عرف «ريش» بأنه قبلة أهل الفن والأدب لكنه فقد بريقه بعد أن انتقلت ندوة نجيب محفوظ إلى مقهى آخر في وسط القاهرة، وهو مشهور بأنه مقر للاشتراكيين واليساريين والشيوعيين، ومؤخرا الثوار في أيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني).
ليست هذه المرة الأولى التي يغلق فيها «ريش»، فقد أغلق عقب خروج مظاهرة للأدباء عقب اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني. وأغلق مرة أخرى بعدما خرجت منه مظاهرة بقيادة يوسف إدريس، وإبراهيم منصور احتجاجا على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1978. أعيد افتتاحه بعد ذلك بسنوات، ثم أغلق للمرة الثالثة لأسباب غير معروفة. وفي نهاية التسعينات أعاد صاحب المقهى الراحل مؤخرا، ترميمه وافتتاحه بعد أن أغلق لمدة 15 عاما، وأثناء التجديدات اكتشف ممرا سريا أسفل المقهى كان يستخدمه الثوار عام 1919 للهروب من قوات الاحتلال الإنجليزي ووجدت به مطبعة عتيقة وعدة منشورات.
لكن مع عودة «ريش» للمرة الثالثة في بداية الألفية ابتعد عدد من المثقفين عن «ريش» من الذين ضاقوا وملوا من المعاملة الخشنة لصاحب المكان وبعض العاملين فيه الذين كانوا يتعاملون بانتقائية تجاه الزبائن في محاولة منهم لإضفاء طابع أرستقراطي زائل عن وسط القاهرة منذ عقود.
ورغم كل شيء؛ سيظل مجدي عبد الملاك حالة نادرة بين المصريين الذين امتلكوا مقاهي أو مطاعم لها تاريخ وحافظوا عليها وعلى العاملين فيها، فالعاملون بالمقهى وأشهرهم كان رجلا نوبيا مسنا يدعى محمد حسين صادق الشهير بـ«عم فلفل» يحملون معهم تراثا شفاهيا مميزا لا يجب التفريط فيه، خصوصا وأن غالبية المقاهي التاريخية ذات الطراز المميز تحولت لمطاعم شعبية وتلاشت هويتها وتاريخها وتناثر ما تحمله من حكايات. لقد أغلق «ريش» منذ عدة أيام كما أغلق على مدار 107 أعوام عدة مرات وتلك هي «المرة الرابعة» التي توصد فيها أبوابه، فهل يصمد ويعود للحياة مرة أخرى؟.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».