لوك فيري.. فيلسوف الخلاص

لوك فيري.. فيلسوف الخلاص
TT

لوك فيري.. فيلسوف الخلاص

لوك فيري.. فيلسوف الخلاص

لوك فيري فيلسوف فرنسي ولد سنة 1952. شغل منصب وزير التربية والتعليم في فرنسا في عهد رئيس الوزراء جون بيير رافاران ما بين 2002 و2004. هو واحد من الفلاسفة الجدد، الذين أحدثوا تحولا عميقا في الأوساط الفلسفية السائدة، برموزها المعروفة أمثال جاك دريدا وجاك لاكان وجيل دولوز وميشال فوكو...، لاعتقادهم أنّ الفلسفة ضلت الطريق بتوغلها في مباحث فكرية ومعرفية عويصة ومعقدة لا يفهمها إلا خاصّة الخاصّة. لقي هذا التيار الجديد نجاحا غير مسبوق لانتهاجه خطابا مبسَطا في تحليل القضايا الراهنة التي تشغل إنسان هذا العصر. ومن رموزه البارزة التي لقيت كتاباتها إقبالا شديدا لدى عامّة القرّاء، إلى جانب لوك فيري، أندري كونت سبونفيل وميشال أونفري... بعد تخرّجه من السوربون ثم من هيدلبرغ بألمانيا في أواسط السبعينات، التحق لوك فيري بالتدريس، فدرّس الفلسفة والعلوم السياسية في جامعات فرنسية كثيرة، وبدأ نشر إنتاجه منذ 1985 بكتاب ينتقد الفكر الفلسفي السائد، وعنوانه «مقال في مناهضة الإنسية المعاصرة» ثم أصدر كتابا بعنوان «النظام الإيكولوجي الجديد» وآخر بعنوان «الإنسان الإله أو معنى الحياة». في كتابه «تعلم الحياة» اعتبر لوك فيري أن فلسفته تقوم على مبدأ الخلاص، أي فلسفة البحث عن الخلاص دون اللجوء إلى أي قوى خارجية. إنها تساعد على قهر المخاوف التي تشل الحياة، فلا أحد في نظره يستطيع أن يحل محلها، إنها تعلم الحياة وتعلم عدم الخوف من مختلف أوجه الموت وتخطي تفاهة اليومي وقد أثبتت الفلسفات القديمة هذه القدرة على الحضور في حياتنا المعاصرة بخلاف تاريخ العلوم الذي يخضع لمنطق الدحض والتجاوز. وبهذا المعنى لن تصبح الفلسفة مجرد تأمل نقدي كما يراها الكثيرون، بل تتحدد من خلال أبعاد ثلاثة أساسية هي: النظرية «كيف نرى العالم ونفسره»، وعلم الأخلاق «ما الذي سنتفق عليه فيما بيننا كجماعة إنسانية»، وقبلهما وبعدهما الخلاص «كيف نجابه كبشر معرفتنا بزوالنا وشبح الموت والفناء الذي نعيه منذ أن نعي الوجود»... ومن خلال تناوله ودراسته لتلك الأبعاد الثلاثة في أكثر من محطة فلسفية، يتتبع القارئ كيف تطوّر الوعي الإنساني ببطء أو بقفزات عنيفة أحيانا، وكيف ظلّت أسئلته الوجودية الأكثر عمقا مفتوحة على عدد لا نهائي من الإجابات، منذ الرواقيين الذين رأوا في النظام الكوني «الطبيعي» المعنى والمآل، ونصيحتهم بالعيش في الحاضر دون التأسي على ما مضى أو ما هو آت، ومنهم إلى الخلاص بالروح والجسد لدى المسيحيين وكيف انتصرت المسيحية على الفلسفة وجعلت منها مجرد خادم للإيمان، وكيف صار الإيمان والمحبة في الله هو مناط الخلاص الإنساني ومجابهته للفناء. ومن المسيحية إلى الإنسية الجديدة حين صار الإنسان هو مركز العالم ومناط التحكيم والمنبع والمصب لكل التجربة والحكمة، حين صار العلم والعقل والتجربة والمنطق هم الشاهد والدليل، هنا أصبح الفيلسوف يعتقد أن معرفته وفهمه لذاته وللآخرين يمكنانه من تخطي مخاوفه ببصيرة نافذة وليس بإيمان أعمى. بعبارة أخرى إذا كانت الأديان تصف نفسها بأنها «عقائد الخلاص» بواسطة الآخر وبعون الله، فإن فيري يستطيع وصف الفلسفات الكبرى بأنها «عقائد الخلاص» بواسطة الذات ومن دون عون الله. إذن مراد الفلسفة في نظره هو أن نخص أنفسنا بقوانا الذاتية وعبر الدروب التي يرسمها العقل ببساطة إذا ما توصلنا لاستخدامه كما يجب بجرأة وحزم، وهذا بالضبط ما حاول قوله مونتاني عندما يؤكد لنا أن «التفلسف هو تعلم الموت»، ملمحا إلى حكمة قدماء الفلاسفة اليونانيين. إن كتاب «تعلم الحياة»، هو واحد من صيغ الفيلسوف الإغريقي القديم «سينيك». فهو يضم فكرة التلقين الفلسفي، من حيث أنه ضروري للتخلص من المخاوف الوجودية. لكن هذا يتضمن أيضا فكرة احتواء العالم في شموليته. وهو ما يعني أن احترام الآخر لا يلغي الاختيار الشخصي. بل إن هذا الاختيار شرط أساسي في اعتناق هذه الشمولية. من هنا يجب أن ندرس عند الفلاسفة الكبار هذه النقطة السامية من فكرهم وهي فكرة الخلاص الشخصي. فإن لم تقدنا هذه الفكرة إلى الحكمة فإنها على الأقل ستقربنا منها. لقد كان موضوع الفلسفة اليونانية العامّ هو القول بأنّ الحياة الطيّبة هي التي تقبل الموت، تلك التي انتصرت على الخوف والقادرة على العيش في الحاضر. والحكيم هو الذي لم يعد يخاف من الموت والقادر على التآلف مع الكينونة. وهو الأمر الذي تمت استعادته من قبل سبينوزا ونيتشه، وإلى مثل هذه النتيجة انتهى الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في حواره المنشور بجريدة لومند الفرنسيّة. وهذا الحوار الذي أعقب صدور كتابه الأخير «ثورة الحبّ»:
كان الحبّ موجودا على الدوام بيد أنّ ابتداع زواج الحبّ هو أعظم حادث على المستوى المجتمعي بالنسبة للقرنين الماضيين في أوروبا. ما هو زواج الحبّ؟ هو ذلك الزواج الذي اختاره الأبناء وليس ذاك الذي تفرضه القرية أو الوالدان. هو نتيجة تحرّر الفرد من نفوذ وتسلط القرية والذي كان نتيجة منطقية لأسلوب العمل المأجور. فهذا الابتعاد عن القرية هو الأمر الذي سمح بظهور العلمانية في أوروبّا، إذ هو، أيضا، ابتعاد عن عبء الأديان الاجتماعي. لم تولد العلمانية في فرنسا من تاريخ الأفكار وكان من نتائج الزواج المذكور. إن حبّ الأبناء لم يكن له مثيل في تاريخ الإنسانية كلّه. في القرون الوسطى كان موت طفل أقلّ أهمّية من موت خنزير أو فرس. أذكر جملة كتبها المفكر مونتاني في رسالة إلى أحد أصدقائه: «صديقي العزيز، لقد فقدت ولدين أو ثلاثة وهم في مرحلة الرضاعة». ولكن لم يدفع هذا الحبّ للأقارب أبدا إلى الفردية أو الانكفاء على الذات بل بالعكس كان من نتائجه الانفتاح على المشترك وعلى السياسي. ما يحدث اليوم هو شيء مثير للاهتمام: نحن - حسب فيري - نعيش تصفية لكلّ وجوه المقدّس بالمعنى الاشتقاقي للكلمة. فالمقدّس ليس الديني في مواجهة الدنيوي. إن القيم المقدسة هي التي يمكن أن أضحي من أجلها، تقديم حياتي فداء لها. يوجد في تاريخ أوروبّا ثلاثة ضروب من المقدّس الجماعي: الموت من أجل الله وذاك يعني الحروب الدينية، والموت من أجل الوطن «35 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية»!، وأخيرا من أجل الثورة (خلفت الشيوعية نحو 120 مليون ضحية عبر العالم). أعتقد أنّه قد تمّ تصفية تلك الوجوه الثلاثة تحت تأثير تاريخ الهدم في القرن العشرين، من خلال تاريخ العائلة الحديثة والعمل المأجور. فبانفكاكه عن قريته وضع الفرد مسافة بينه وبين الكاهن حينما يحبّ شخص شخصا ما حقّا، وسواء كان ذلك حبّا عشقيّا أو حبّ أبوة، فإن الإنسان يعيش في هذا الحبّ تجربة تقديس الآخر إذ سيصبح بهذا مقدّسا بالمعنى الذي يمكن فيه أن يقدّم حياته فداء له إن كان مهدّدا. إن الإنسان، هنا، يعيش تجربة متعالية، ولكن لا يشعر بها لا على مستوى الفكر أو الدين، ولا في أي مكان آخر غير داخله هو. وهذا ما تعبّر عنه استعارة القلب في كلّ مكان، وفي كلّ اللّغات والثقافات، حيث أطلق عليه الفيلسوف هوسرل: «التعالي في المحايث»..
إن حياة ناجحة لكائن هالك أفضل من حياة فاشلة لكائن خالد، هذه هي بداية الفلسفة، وذاك تعالٍ علماني بمعنى من المعاني، لا يمكن أن يتحقق في نظر فيري إلا من خلال سفر متأن في تاريخ الفلسفة من الحكمة القديمة إلى التفكيكية المعاصرة مرورا بميلاد المسيحية، النزعة الإنسية وما بعد الحداثة. في خضم هذا التعلم الذي يوفق بحيوية بين الوضوح والعمق، ويجعل القارئ أكثر تعلما وأكثر حرية، تتحقق الفلسفة التي هي بمعنى من المعاني تعلم للحياة أو لنقل فنا للعيش!



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!