في زمن القحط الفني بلبنان، وغياب ملحوظ للنشاطات، يفتقد الناس مساحة ثقافية تضيء أيامهم وتشكل بصيص أمل ينشدونه. الأعياد كما مواسم الصيف والشتاء، باتت تمر مرور الكرام، دون أن تترجم طاقات فرج تنثر الفرح في حفلات غنائية ومهرجانات.
ولكن في ظل كل هذا التخبط الذي يعيشه لبنان، ومشكلات يعاني منها اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، تلوح في سماء العاصمة غمامة بيضاء حاملة كمية من الرجاء، فتمسح بمشهديتها معاناة شعب يكافح من أجل البقاء، فيلجأ إلى الفنون كي يتجاوز معها مصاعبه بعزة نفس وصلابة.
ولعل وقوف العائلة الرحبانية الفنية العريقة وراء انبثاق بقعة ضوء، يعزز مقولة: «مين خلّف ما مات». فهذا الجب الفني الذي لا يكف عن توليد نبض الحياة والفنون الأصيلة في لبنان والعالم العربي، يأخذ على عاتقه مرة جديدة رفع شأن اللبناني، ويحثه على السير قدماً، فخوراً بانتمائه إلى وطن لا يموت، مهما قسا عليه الزمن.
ففي 22 مايو (أيار) الحالي، يترجم الموسيقي أسامة الرحباني كل مشاعره الحرة تجاه وطنه، ضمن حفل غنائي يقام في مركز «فوروم دي بيروت» تحت عنوان «ليلة أمل». هذا الحفل الضخم الذي سيحضره نحو 5 آلاف شخص، سيكون الأول من نوعه الذي تشهده بلاد الأرز. فهو يفتح أبوابه لاستضافة محبي الفنون مجاناً؛ بلا أي مقابل مادي. أما نجوم هذه الحفلة فهم عالميون. وكما الفنانة هبة طوجي يجتمع في هذه الأمسية عازف الساكسوفون إبراهيم معلوف، بقيادة المايسترو أسامة الرحباني.
وعن قصة ولادة هذه الحفلة وفكرة إقامتها، يقول أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط»: «في الفترة الأخيرة كنت أمر بحالة يأس بالغة؛ خصوصاً فيما يتعلق بحقلي الثقافة والفنون في لبنان. هناك إهمال تام نشهده في هذين المجالين في وطن عُرف بحضاراته، وشكَّل صلة الوصل بين الشرق والغرب. رجال السياسة في لبنان -ومع الأسف- منشغلون بمصالحهم الخاصة، ومهتمون بإيجاد حلول لمشكلاتهم. وهم بذلك بنوا جداراً عازلاً بين اللبناني والثقافة والفن، إنهم جشعون ولا يكترثون لمستقبل شعبهم. من هنا بدأت أفكر في القدرات التي يمكنني من خلالها أن أمحو وصمة الخضوع التي يحاولون تقييدنا بها».
في رأي أسامة الرحباني، الثقافة والفنون يجب أن تدعم من منابع الاقتصاد في الأوطان. في بلاد العالم، تهتم المؤسسات بدعم الفنون والحفاظ عليها كي تبقي شعوبها حية تنبض بالأمل.
«خطر على بالي فكرة مجنونة، وقلت في نفسي: ولمَ لا؟ فأن أزوِّد اللبناني بجرعة حب أرسلها إليه مغلفة بالثقافة والفنون، سيعزيه من دون شك، ويدفعه إلى المشي مرفوع الرأس معتزاً بمواطنيته، وبأنه ينتمي إلى بلاد الأرز. ومهما حاولوا شدنا إلى الأسفل وكبح حبنا للحياة، سنبقى شعباً ينبض قلبه، ويقاوم ويستمر. وكما يقول الرحابنة في مسرحية (صيف 840): «(مع هيك زعماء يبقى فجر الوطن بعيد)».
يسرقك حماس أسامة الرحباني وحبه للبنان اللذان لا يتوانى عن التعبير عنهما في أفكاره وأعماله وفي حواراته الإعلامية. وكالعدوى تصاب بها لا شعورياً، وينتفخ قلبك فرحاً وهو ينطق بهما. فالإرث الفني الذي تركه له آل الرحباني، وبالأخص والده الراحل منصور الرحباني، يعتبره كنزاً لا يمكن التفريط فيه. فهو يعمل على تعزيز مكانة لبنان بالقول وبالفعل. أفكاره لا تنضب، ويترجمها أعمالاً تُحفر في التاريخ الحديث، ويحملها على كتفيه أينما كان، فتحط رحالها على أهم مسارح العالمين العربي والغربي، لتكون بمثابة ذرات تراب يزرعها عند الغير، يشتَمُّون من خلالها رائحة الإبداع اللبناني.
ويتابع في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تفاجأ كثيرون بالفكرة التي خطرت على بالي، من بينهم هبة طوجي وإبراهيم معلوف؛ خصوصاً عندما علموا بأنها ستكون حفلة ضخمة ومجانية. وبفضل أشخاص يحبون لبنان ويؤمنون بقدرته، استطعنا تنظيم هذا الحدث. ومن بين هؤلاء مجموعة (أبوظبي للثقافة والفنون) بشخص سعادة هدى إبراهيم الخميس، مؤسّسة المجموعة، والمدير الفني لمهرجان أبوظبي. وكذلك شركة (يونيفرسال أرابيك ميوزك) الرائدة عالمياً، ورئيسها التنفيذي المنتج وسيم صليبي وزوجته ريما الفقيه. إضافة إلى شركات أخرى بينها (ميدك) الرائدة في مجال إنتاج البتروليوم، فمعها استطعنا تأمين رعاة للحفل وانطلقنا في العمل».
وعما ستتضمنه هذه الأمسية، يقول الرحباني: «يشارك في هذا الحفل الضخم 50 موسيقياً من أبرز موسيقيي الأوركسترا الفيلهارمونيّة اللبنانيّة. أضف إلى ذلك، كورال صوت الجنة وعشرات الراقصين المُحترفين. فعدد التقنيين المشاركين في تنفيذ هذه الأمسية يفوق الـ180 شخصاً.
وستقدم هبة خلالها عدداً من أغنياتها القديمة التي تتراوح موضوعاتها بين العاطفية والوطنية. كما ستقدم لأول مرة بعضاً من أغنيات ألبومها الجديد. وسيكون ضيف الحفل عازف الساكسوفون العالمي إبراهيم معلوف. وستشهد الحفلة مفاجآت متتالية، يستمتع بها الحضور، ولن أعلن عنها اليوم كي لا تفقد نكهتها».
ويشير أسامة الرحباني إلى أن أكثر ما لفته خلال تنظيمه للحفل، هو هذا الاتحاد الكبير بين اللبنانيين على مختلف مشاربهم. «سكننا حماس مذهل؛ لا سيما أن اتحادنا كان واضحاً. للمرة الأولى تنقلب القاعدة في لبنان، المعروف بقوة العمل الفردي وضعفه كمجموعة. حان الوقت كي نقول لرجال السياسة في لبنان: (كفى مذلة للناس، فأنتم تحاولون أخذنا إلى الدرك، ونحن نجتهد لنبقى فوق). هذا هو الذي رغبنا في قوله، هبة وأنا من خلال هذه الحفلة. فلبنان الثقافة والفن لن يموت، وسنبقى ونستمر».
صرخة وطنية يشكلها هذا الحفل الذي لن يدخله إلا من يحمل بطاقة باسمه، يكون قد حجزها من مراكز سبق أن أُعلن عنها. ولا بد أن يؤكد صاحبها الحجز قبل ليلتين من موعد الحدث. وسيحضر الناس الحفل جلوساً، ويعيشون على مدى 90 دقيقة في عالم فني تحضر فيه الاستعراضات والموسيقى والأعمال الغنائية الأصيلة. وتنقل قناة «إم تي في» المحلية وقائع الحفل مباشرة على الهواء، كي يتسنى لأكبر عدد من اللبنانيين مشاهدته والاستمتاع بمجرياته على المسرح.