يوم لندني مع جماليات الفن الإسلامي وروحانية الأشكال الهندسية

في مدرسة الأمير تشارلز للحرف التقليدية

 في درس الهندسة ثلاثية الأبعاد.. تكوين الأشكال الهندسية من الصلصال والبلاستيك
في درس الهندسة ثلاثية الأبعاد.. تكوين الأشكال الهندسية من الصلصال والبلاستيك
TT

يوم لندني مع جماليات الفن الإسلامي وروحانية الأشكال الهندسية

 في درس الهندسة ثلاثية الأبعاد.. تكوين الأشكال الهندسية من الصلصال والبلاستيك
في درس الهندسة ثلاثية الأبعاد.. تكوين الأشكال الهندسية من الصلصال والبلاستيك

كثيرا ما نتوقف أمام جماليات الفن الإسلامي، نستمتع به في لوحات خط أو نراه يتجلى في عمارة مسجد عتيق أو في الزخارف التي نقشت بهاء وجمالا في مساجد وبيوت قديمة مرت عليها القرون ولم تغير شيئا من بريقها. التأمل في جماليات تلك الفنون لا يمنح الفنان والحرفي كامل حقه برأيي، ولا تفي النظرات الخاطفة للإلمام بكل ما تحمله تلك الأشكال من معان رمزية ومدلولات تبدأ كلها من نقطة واحدة لتتفرع إلى ما لا نهاية.
بداية، التقدير والفهم ربما يجب أن يكونا عن طريق الدراسة والتحليل وهذا ما تقدمه معاهد وجامعات كثيرة برز منها في لندن مدرسة الأمير للحرف التقليدية التي ساهمت عبر السنوات في إثراء موهبة عدد من الفنانين في العالم العربي والغربي. ولكن المدرسة أيضا تمنح الفرصة لغير المحترفين من المهتمين وعشاق الفن للتعلم والفهم وربما الابتكار، وهو ما أتيح لي مؤخرا خلال يومين من الدروس المكثفة في مقر مدرسة الأمير للحرف التقليدية في شرق لندن.
اليوم الأول حمل عنوان «مقدمة في الفن الإسلامي» وانقسم إلى ثلاثة أقسام، الهندسة والخط العربي والتذهيب. بدا في البداية أن الدروس ستتطلب الكثير من التركيز والمهارة اليدوية والعقلية، وهو ما كان محفزا للمجموعة الصغيرة التي حضرت الدروس. وهكذا فتح أمامنا الباب لندلف لعالم من الجمال والرقي والروحانية. جلست إلى جانب سيدتين إحداهما من اليونان والأخرى من باكستان وأمامي باقي المجموعة التي تكونت من خليط من الأعمار والجنسيات. جارتي اليونانية بدت متأهبة، وضعت أمامها دفترا صغيرا لتدوين الملاحظات وأدوات الرسم من مسطرة وأقلام رصاص، سألتها عن سبب حضورها أجابت بأن هذا ليس الدرس الأول الذي تحضره حول الفن والحرف التقليدية فهي قد درست من قبل فن المنمات المغولية والخط الياباني وغيرها. أسألها إن كانت متخصصة في الفنون تجيبني: «أدرس لمتعتي الخاصة، فأنا أستاذة لعلم الاقتصاد في الجامعة ولكن دروس الحرف الفنية هي وسيلتي للاسترخاء وهي الطريقة التي أحب أن أقضي بها إجازاتي».
نلتفت إلى الفنان توم بري وهو يعد لنا الدرس الأول في علم الهندسة والأشكال الهندسية الإسلامية فيجهز الأوراق والأقلام، يبدأ معنا بالحديث حول المدلولات الروحية للهندسة وعلاقة الواحد بالكل، الخالق والمخلوقات أو كما يقول «المهندس الأعظم» الذي رسم أشكال الحياة المتشابكة أمامنا والتي تتجلى في كل شيء، في الزهور والأشجار وفي السحاب وتكوينات المجرات وأشكال النجوم، في استدارة الكواكب وتشكيلات أوراق الورد، في الأشكال المتفردة في كل شذرة ثلج تسقط من السماء. يلجأ بري للمقارنة بين الصورة في الطبيعة ثم يعرض لنا خطوطها المجردة لإظهار الشكل الأساسي.
نبدأ في عمل شكل بسيط من أشكال الزخرفة الإسلامية، ونتناول الفرجار ونبدأ برسم الدائرة، يشير إلى النقطة وسط الدائرة قائلا: «النقطة هي محور الدائرة وداخلها أيضا هناك محور آخر وهكذا إلى ما لا نهاية». يبدو في هذه اللحظة أن علم الهندسة وفن الزخارف إنما هو وسيلة لتأمل الخلق وتركيباته. لا يخلو كلام بري من الروحانية، فيستشهد بأحاديث قدسية وبعبارات خالدة. نتبع تعليماته ونقوم بالرسم، نمد الخطوط ونكون شكلا زخرفيا بديعا، قد نرى جزءا بسيطا منها في نافذة بيت أو على قبة مسجد. وخلال الرسم ألاحظ أن هناك خللا ما، فكلما ابتعدت عن الدائرة الرئيسية ألحظ أن هناك تفاوتا في القياسات وأن هناك فروقات بين الأشكال وبعضها، ينظر بري للشكل ويقول: «هذا أمر طبيعي، ولهذا نحتاج التمرين المتصل للوصول للشكل السليم والدقيق». بعد الانتهاء من تكوين الأشكال الزخرفية نبدأ في تلوينها، المتعة التي نجدها جميعا في التلوين تجعل إحدى الحاضرات تعلق قائلة: «نبدو كمجموعة من الأطفال وجدت ضالتها في أقلام التلوين»، نتفق معها فمتعة الرسم والتلوين لا مثيل لها. في يوم آخر نحضر درسا في الهندسة ثلاثية الأبعاد حيث نكون الأشكال الهندسية باستخدام أعواد البلاستيك وقطع الصلصال.

* الألوان.. مصادرها وصنعها
الدرس الثاني وهو تقديم للألوان وتكوينها، حضرته مرتين، مرة مع المدرسة أمبر وأخرى مع المدرسة لويز. الأساس واحد، فكلتاهما تتحدث عن صناعة الألوان من المواد الطبيعية وهو ما كان يستخدم قديما وما تحرص المدرسة على الالتزام به. نستخدم خلال هذا الدرس ألوانا مائية، فالألوان الطبيعية ثمينة جدا وتستغرق الوقت لتحضيرها. ولكننا مع ذلك نشهد تجربة حية لصناعة لون معين من خلال حرق حفنة من مسحوق حجر المغرة الذي يتميز بلونه الأصفر ليتحول بعد دقائق للون الأحمر. نخلط جزءا من اللون الأصلي وجزءا من اللون الوليد ونقارن بين اللونين على الورق. لويز تتساءل ما رأيكم أي الألوان تفضلون، الألوان الصناعية الحديثة أم الطبيعية؟ البعض يجيب والبعض الآخر ينشغل برسم خطوط ملونة وتلوين أحد الزخارف الإسلامية. أجيبها: «أعتقد أن اللون الأصلي أجمل»، تبتسم وكأنما تشكرنا لتأييد رأيها. تقول إنها تقوم برحلات مع طلبتها لجمع الحبيبات والأحجار والثرى المختلف الألوان، بعد ذلك يتم تنقيتها من الشوائب حتى تصل للمادة الخام. من خلال أحاديث مع بعض من خريجي المدرسة خلال السنوات القليلة الماضية يكادون يجمعون كلهم على أهمية تكوين الألوان المستخدمة.
مرة أخرى تصمت الحجرة تماما وننشغل إلى حد عدم ملاحظة مرور الوقت المخصص لنا، يحاول كل منا أن ينتهي من تلوين الشكل أمامه، البعض يبدي مهارة خاصة في مزج الألوان والتلوين بها، آخرين وأنا منهم نجرب الألوان المختلفة ونخلط ألوانا لا تروق لنا لنعود لغسل الأدوات أمامنا والبدء من جديد، ولكن في النهاية يخرج كل منا حاملا ما سمته لويز مجازا «عملا فنيا». لنتجه لآخر درس في اليوم الحافل وهو مقدمة في الخط العربي والتذهيب مع ثريا سيد، المعلمة المبتسمة الهادئة.

* حروف الخط العربي وتلوينها
ثريا تبدأ الدرس بشرح أنواع الأحبار والأقلام الخاصة التي تستخدم في الخط. كما تعرض أوراقا مذهبة تستخدم لتزيين خلفيات الكتابة وهو ما يعرف بعملية «التذهيب». تشرح لنا أكثر طريقة استخدام الورق الذهبي وتشير إلى أن النوع أمامنا رخيص ويستخدم للتدريب فقط وهو أمر مفهوم. تستخدم نوعا خاصا من الصمغ وتضعه على الأجزاء التي ترغب إبرازها باللون الذهبي ثم تفرد فوقها قطعة من الورق الذهبي وتمر عليه بظهر قلم لتثبيت اللون. نجرب التذهيب في لوحة صغيرة من الزخارف تتوسطها كلمة «الله»، منا من يختار تذهيب الحواف، ومنا من يتجه لتذهيب أحرف الكلمة، النتيجة معقولة إلى حد كبير، ويجب القول بأنها مرضية بشكل غريب. تمضي ثريا بعد ذلك لتحاول أن تستغل آخر لحظات اليقظة الذهنية لدينا في نهاية يوم حافل لتقدم لنا أوراقا تحمل حروفا ونقاطا بالخط الكوفي. نحاول أن نقلد تلك الحروف ولكن الأمر أصعب مما يبدو.
في نهاية اليوم نحمل الأوراق التي قضينا يومنا كله في تلوينها ورسمها بإحساس الطالب الذي ينهي يوما كاملا من المتعة المجردة. أغلبنا يحاول الحصول على معلومات أكثر عن الدورات القادمة التي تقدمها المدرسة للعودة مرة أخرى لتعلم المزيد. أجدني متفقة مع صديقتي اليونانية في أن تعلم الحرف والمهارات يخلق نوعا من الراحة والاسترخاء والمتعة أيضا. وأبحث أيضا عن دورات قادمة للتعلم وخوض التجربة الفريدة مرة أخرى وبتوسع أكبر يسمح لي بمعرفة أكثر عن تلك المهارات التي تمتع بها الصانع والفنان المسلم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)