يندر أن تترك جهة ما بصمة ملموسة في غضون عام واحد، إلا أن المعهد الملكي للفنون التقليدية في الرياض استطاع تحقيق هذه المعادلة الصعبة، فخلال الـ365 يوماً الماضية صدح صوته في سرد التاريخ الفني المتجذر في السعودية، وإعادة إحياء الفنون التقليدية، بما تشمله من الخط والتطريز، وفن النسيج، وصناعة المجوهرات، وغيرها، مع توفير فرص الانغماس في تعلم الفنون التقليدية، التي تشكل لبنة من لبنات بناء المشهد الثقافي المحلي. ولا يقتصر ذلك فقط على الفنون البصرية، بل يمتد أيضاً للفنون الأدائية وفنون تقليدية أخرى مثل الرقص والموسيقى. جميعها انتعشت في المعهد الذي يحتفل اليوم السبت بإطفاء شمعته الأولى عبر فعاليات تتخذ لها مسمى «تَليد»، في حديقة الفوطة بالرياض، وتستمر لمدة 3 أيام غنية بالتراث الفني.
تتحدث الدكتورة سوزان اليحيى مدير عام المعهد لـ«الشرق الأوسط»، عن «تَليد»، مبينة أنها كلمة تشير للفن الموروث، وتضيف: «تأتي بمناسبة مرور عام على تأسيس المعهد الملكي للفنون التقليدية بعالم متجدد من التراث الفني بطريقة معاصرة ومبتكرة، ولإثراء الأصالة والثقافة في مساحة تفاعلية مثرية، نكتشف فيها تاريخ الفنون التقليدية».
التركيز على تعليم الفنون التقليدية للأجيال الشابة
وتزيح اليحيى الستار عن حزمة الأنشطة المصاحبة لـ«تَليد»، موضحة أنها تشمل عروضاً حية للحرفيين، وفعاليات خاصة للأطفال، مثل البناء بالطين لتجربة حية كحرفي صغير، إلى جانب ورش العمل والندوات الإثرائية والعروض الأدائية التقليدية. وأبانت أن دخول «تليد» متاح للجميع عبر التسجيل بالموقع الإلكتروني، في رحلة مليئة بالتجارب الحية.
وبمواضيع تلامس مستجدات الفنون، تأتي الحوارات في برنامج «تَليد»، إذ يقام اليوم حوار «دور المجتمع في المحافظة على الفنون التقليدية»، في جلستين إحداها بالعربية والأخرى بالإنجليزية، إلى جانب ورش العمل عن «الألوان في الطبيعة» و«القهوة السعودية»، وغداً جلسة حوار «تصحيح المفاهيم في مجالات الفنون التقليدية»، وفي اليوم الأخير عنوان الجلسة «دراسات التوثيق والترميم والمتاحف، ودورها في حفظ الهوية».
قصة الولادة
بسؤال اليحيى عن فكرة تأسيس المعهد الملكي للفنون التقليدية، تقول «هو وجهة رائدة لإبراز الهوية الوطنية، وإثراء الفنون التقليدية السعودية محلياً ودولياً»، مشيرة إلى أنه جاء تأسيسه بقرار من مجلس الوزراء في الرياض عام 2021، كأبرز مبادرات الاستراتيجية الوطنية للثقافة وتحت مظلة برنامج «جودة الحياة»، أحد برامج رؤية المملكة 2030.
د. سوزان اليحيى مدير عام المعهد الملكي للفنون التقليدية
وتضيف اليحيى أن «المتوقع أن يخدم المعهد أكثر من ألف طالب وطالبة سنوياً، من خلال البرامج التعليمية التي يقدمها»، وتستطرد مبينة أهداف المعهد المتضمنة إبراز الهوية الوطنية السعودية من خلال تعليم الفنون التقليدية للأجيال الشابة، والمساهمة في حفظ التراث الثقافي السعودي وصونه.
يضاف لذلك، تقديم برامج تعليمية في مجالات متعددة مختصة بالفنون والثقافة تسهم بتخريج ممارسين مؤهلين، إضافة إلى رفع مستوى الوعي العام حول الفنون، والاحتفاء بقيمة الفنانين والرواد في مجالات الفنون التقليدية والحرفيين السعوديين، وتسليط الضوء على جهودهم، فضلاً عن الترويج لمجموعة واسعة من المعالم الثقافية السعودية على الصعيد العالمي، مع تركيز المعهد على تقديم التعليم والتدريب المهني في مجال الفنون التقليدية.
باكورة الجهود
وبعد العام الأول يأتي السؤال: ما الذي أنجزه المعهد حتى الآن؟ تجيب اليحيى، أن «للمعهد مقراً رئيسياً في الرياض وفيه فرع مجهز بالمعامل الفنية المتخصصة لتمكين فرص التعلم على أفضل وجه، ودُشن فرع آخر في جدة التاريخية، كما أبرم المعهد عدداً من الشراكات المحلية والدولية، وأطلق برنامج التلمذة في الحرف التقليدية الذي يُعد الأول من نوعه على مستوى المملكة، ويشمل في مرحلته الأولى حرفتي النسيج التقليدي (السدو) والبناء التقليدي بالطين».
ليس هذا كل شيء، كما تفيد اليحيى التي تشير إلى أن المعهد يقدم بالشراكة مع مؤسسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية برنامج دبلوم فنون البناء في جدة التاريخية كتجربة تعليمية، وفق أعلى المستويات لإحياء الفنون التقليدية والمعمارية لجدة التاريخية مع التأكيد على الحفاظ على الموروث الثقافي المادي. وللدورات حصة وافرة، إذ توضح اليحيى أن المعهد يقدم 13 مجالاً في الفنون التقليدية عبر برامج الدورات القصيرة وهي: الخط الديوان، والتجليد التقليدي للكتاب، والتطريز اليدوي التقليدي، والأزياء التقليدية (المقطع النجدي)، والنسيج التقليدي (السدو)، والمجوهرات التقليدية، والفنون التقليدية بالفخار، وفنون الأبواب الخشبية التقليدية، والفنون التقليدية بالمعادن، والفنون التقليدية بالأحجار، والفنون التقليدية بالخوص، والقط العسيري، وتقنيات البناء التقليدي، بالإضافة إلى دورتين مقدمتين عن اليونيسكو، وتدريب ما يقارب 500 متدرب ومتدربة.
ما القادم؟
كما هو معروف، كلما زادت الإنجازات تضاعف حجم التحدي في استكمال هذه الجهود بشكل أكبر، وبسؤال اليحيى عن تطلعات المعهد الملكي للفنون التقليدية، توضح أنه يتماشى مع أولى محاور رؤية المملكة 2030، التي تهدف لخلق مجتمع حيوي يتميز بأصوله القوية، وأسسه المتينة التي تعزز الهوية الوطنية.
وتردف اليحيى قائلة، إن «المعهد الملكي للفنون التقليدية يعمل وفق استراتيجية مداها 10 سنوات ليكون وجهة للفنون التقليدية من خلال طرح دورات أكاديمية وتدريبية، وإطلاق حملات توعوية، وإجراء بحوث وبرامج تبادل دولي؛ كما يهدف إلى توفير منصة للفنانين لتحقيق طموحاتهم، ولتمثيل هوية المملكة العربية السعودية وإبراز تراثها».