دي ليانيو: ينبغي معرفة الحياة بكل أشكالها... بهذه الطريقة فقط يمكن كتابة عمل أدبي مهم

الكاتب الإسباني يتحدث عن فتنته بأشعار ابن حزم القرطبي وكتاب «حي بن يقظان»

الكاتب الإسباني إغناثيو دي ليانيو
الكاتب الإسباني إغناثيو دي ليانيو
TT

دي ليانيو: ينبغي معرفة الحياة بكل أشكالها... بهذه الطريقة فقط يمكن كتابة عمل أدبي مهم

الكاتب الإسباني إغناثيو دي ليانيو
الكاتب الإسباني إغناثيو دي ليانيو

حول كتابه الأحدث «الفلسفة والسرد»، دار حوار ممتد بين الكاتب الإسباني إغناثيو دي ليانيو ومثقفين عرب، خلال مشاركته الأخيرة ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ حيث قرأ فصولاً من الكتاب الذي يجمع بين دفتيه مقاربات بين سرديات ملاحم أدبية خالدة وهوامش فلسفية ونقدية معاصرة. ويتنوع إنتاج دي ليانيو ما بين الفلسفة والأدب وعلوم السياسية والنقد الفني، ويعدّه النقاد أحد أبرز الفلاسفة الإسبان المعاصرين، بجانب فرناندو ساباتير وأديلا كورتينا، وهو أيضاً شاعر وروائي وناقد فني وأكاديمي، قام بتدريس علم الجمال في جامعات إسبانية وأوروبية ويابانية. صدر له 70 كتاباً، من أبرزها «الأديان الآيديولوجية... الديمقراطية، الماركسية، الإسلام»، و«فك شفرة سلفادور دالي»، وينتظر قريباً أول ترجمة لأعماله للغة العربية.
هنا حوار معه على هامش هذه الزيارة حول كتابه الجديد ومشروعه الفكري والأدبي، ونظرته للفنون التشكيلية، وعن الثقافة العربية وآدابها...
> في كتابك «الفلسفة والسرد» جسور ممتدة بين الأدب والتخييل والفلسفة، ما أبرز التساؤلات التي يطرحها هذا الكتاب؟
- قضيت سنوات عمري أكتب القصة والتأملات الفلسفية حول موضوعات متنوعة. إنهما معاً يمثلان بعداً لمسيرتي الفكرية. في قصصي ثمة خلفية فلسفية تمنحها طابعاً خاصاً. وفي تأملاتي الفلسفية لا يغيب ما يمكن اعتباره إبداعاً أدبياً. وفي رأيي؛ إن كانت الفلسفة تطمح إلى معرفة الحياة، فالسرد يطمح لتمثيلها. إنهما بعدان يمكن أن يتكئ أحدهما على الآخر.
> مررت في هذا الكتاب على نسخ أدبية خالدة من قصة الخلق، وملاحم شعرية شرقية كملحمة جلجامش، ويونانية كالأوديسة، كيف تتأمل هذا المشترك الأدبي؟
- كلها ملاحم يجمعها التطلع لتمثيل نماذج بشرية. في الأوديسة، وفي الإلياذة نلاحظ الإنسان ككائن مخلوق من أجل السفر، العيش في منفى، أو الخروج للبحث عن شيء قديم، حتى لمواجهة الموت، وهو ما يتجلى أكثر في الإلياذة. في هذا المضمار يأتي جلجامش، الذي اضطر لمواجهة إنكيدو، الرجل الطبيعي، أو البطل المضاد، ما يفرض البحث عن الخلود. إذا كانت الإلياذة تمثل النموذج الروماني، والأوديسة والإلياذة يمثلان النموذج الإغريقي، وقصيدة جلجامش تستعرض النموذج السومري.
> على ضوء ذلك، هل يبدو لك الأدب رحلة فلسفية؟
- ثمة أعمال عظيمة يلعب فيها السفر دوراً رئيسياً، على سبيل المثال، «دون كيخوتيه» ورواية «الناقد الحاد» لـ«بالتاسار جراثيان». فكرة السفر هذه مترعة بالفلسفة، إنه السفر بحثاً عن المعرفة. في حالتي، يمثل السفر أهمية قصوى. وفي رواياتي الأربع (أركاديا، انحرافات، لعبة صالات الصالات، ضد نهاية القرن) أتناول الرحلة التي تصنع أبطالها.
> هل كانت الكتابات الاستعرابية بوابتك الأولى للعبور إلى ثقافة العالم العربي وآدابه؟
- قرأت أعمال المستعربين الإسبان الكبار، مثل أسين بالاثيوس وجارثيا جوميث، وأعمال مستعربين من بلدان أخرى، مثل لويس ماسينيون. هذه القراءة ساقتني إلى عالم مختلف وإضافي، بدا لي بطريقة ما عالماً حميمياً، إذ سبقتها قراءة فلسفة وشعر كتّاب عرب - إسبان (الشاعر ابن حزم القرطبي، والفيلسوف ابن رشد)، وكانت قراءة استثنائية. أحد الكتب التي فتنتني هو «حي بن يقظان» لابن طفيل. وهو كتاب سابق لـ«الناقد الحاد». كل إسباني يعرف ويقدّر مسجد قرطبة وقصر الحمراء بغرناطة. وثمة عمارة إسبانية مثل «النيو - موديخر» ذات التقليد العربي.
> هل لك إسهامات بحثية في قراءة الثقافة العربية والإسلامية؟
- الإسهام الأساسي كان في كتابي الأول، المنشور عام 1975 وأعادت نشره جامعة غرناطة، وعنوانه «ألعاب الساكرومونتي». يتناول صفائح من الرصاص مكتوبة بحروف عربية، اكتُشفت في نهايات القرن السادس عشر في محيط غرناطة (أو في المنطقة التي سميت بعد ذلك باسم ساكرومونتي). في هذه النصوص الرصاصية ثمة محاولة لدمج المسيحية والإسلام. الجدل الكبير الذي أثارته هذه النصوص كان أحد منابع استلهام «دون كيخوتيه»، كما أشير إلى ذلك في كتابي، وهو كتاب تقوم قصته على التراوح بين السرد والفلسفة.
> ننتظر خلال الفترة المقبلة ترجمة بعض أعمالك إلى اللغة العربية، مثل «الفلسفة والسرد»، و«فك شيفرة دالي»، بالإضافة إلى مختارات شعرية، ما انطباعك حول وصول أعمالك للقارئ العربي؟
- أتمنى أن تكون أعمالاً جيدة، ففي «فك شيفرة دالي» تناولت صداقتي بسلفادور دالي في سرد طويل ومليء بالحوارات. ومنذ سنوات أعطيت محاضرات كثيرة عنه في مختلف المدن المغربية، وتلقاها الجمهور المغربي بترحيب، وكانوا يعرفون أعمال دالي الفنية والأدبية أفضل من بعض الإسبان الذين حضروا لي تلك المحاضرات. أما بالنسبة للشعر، فكان ميلي الأدبي الأول وأظن أنه في عمق كل ما أكتبه. أعتقد أن هذه الأعمال، خاصة «الفلسفة والسرد» ستروق للقارئ العربي؛ حيث سيشعر بالبعد الهندسي والأرابيسكي مطبقاً على الأدب.
> كيف تُطوّع معارفك الأكاديمية في علم الجمال والفلسفة والفن التشكيلي لخدمة مشروعك الإبداعي الحُر في الأدب؟
- منذ طفولتي المبكرة كنت منجذباً للقراءة، وهي عادة ورثتها من أمي التي درست القانون في عقد الثلاثينات من القرن الماضي. والعام الفائت نشرت قصائد كتبتها بين سن الرابعة عشرة والثامنة عشرة. في ذلك العمر كنت أسيراً لرغبة التعرف على الحياة والعالم والشخص، هذا الهدف دفعني نحو الفلسفة. الشيء نفسه حدث لي مع القصة. ثم بدأت البحث في الرموز التي استخدمها الغنوصيون، وموجودة في أصل ألماندالا البوذية. انتهى البحث إلى دراسة تجاوزت 2000 صفحة. أما الفنون التشكيلية فجذبتني كذلك منذ شبابي لأنها ارتبطت بالشعر البصري. على المرء أن يسعى لمعرفة الحياة في كل أشكالها. بهذه الطريقة فحسب يمكن كتابة عمل أدبي هام.
> أنت تكتب الشِعر وتربط القصائد بالفن التشكيلي، حدثنا عن هذه الرابطة ودلالاتها...
بدأت كتابة الشعر التجريبي في خريف عام 1964 عندما كنت في الثامنة عشرة. حينها اتجهت للشعر البصري (المحدد، المكاني، السيميوطيقي). نظمت معارض تضم لوحات فنية مصحوبة بقصائد لأعمال شعراء من 15 بلد في غاليريات مرموقة، مثل غاليري «لا خوانا موردو». من هنا انتقلت إلى شعرية الحدث، التي سميت بعد ذلك باسم «بيرفورمانس» أو الشعر الجماهيري، متنقلاً من شوارع مدريد إلى إيبيزا وبامبلونا. كنت أريد تقديم الشعر للحياة، هذه التجارب تراكمت في روايتَي «انحرافات» و«لعبة صالات الصالات»، وخصصت لها معرضاً كبيراً في متحف الملكة صوفيا الوطني بين عامي 2019 و2020.
> لك كتاب بارز عن سيرة سلفادور دالي، هل كتبته بذاكرة الصداقة التي جمعتك به، أم طرحت من خلاله قراءة بيوغرافية لمراحله الفنية؟
- في كتاب «فك شيفرة دالي» جمعت بعض كتاباتي عن الفنان الإسباني، منذ تعرفت عليه في يوليو (تموز) 1978 في بيته بـكاداكيس. ليس فقط ثمرة لحواراتنا، وإنما أيضاً دراسة حول فنه وشخصه. وفي الكتاب أبرهن على تأثيرات الرسومات العصبية لسانتياغو رامون إي كاخال (فائز بنوبل ومؤسس علم الأعصاب) على تكوين دالي كفنان سوريالي. لقد تعرف عليها حين عاش في مدريد في منتصف العشرينات.
> حدثنا عن ملامح عملك ضمن اللجنة العلمية لاختيار الأعمال التشكيلية للفن المعاصر، في متحف الملكة صوفيا مدريد.
- لست عضواً في اللجنة العلمية للمعرض، وإن كان كثير من الأعضاء، ومن بينهم مدير متحف الملكة صوفيا، أصدقاء مقربين لي، ونتبادل بالتالي الآراء كلما طلبوها مني.
> تبرعت بجانب من أرشيفك الشخصي ضمن أحد المعارض بالمتحف، ما بين خطابات وكتابات في المجالات الشعرية والفلسفية والأكاديمية، كيف ترى فكرة تبرع الكُتاب بأرشيفاتهم، وقيمتها الأدبية والمعنوية؟
- تبرعت، قبل أي شيء، بأعمال الشعر التجريبي، ولوحات الفن الجيوميتري - البنائي، وبعض الوثائق التي يرجع تاريخها من 1965 إلى 1975. رأيت أن متحف الملكة صوفيا يهتم بالاحتفاظ بها، وأني بهذه الطريقة يمكنني نشر المعرفة بأعمال هامة وبمرحلة فاصلة في الطليعة بين الدارسين والجمهور بشكل عام.
> بعد 8 قرون من الاختلاط بين الثقافتين العربية والإسبانية، وتجليات الأثر العربي على مدار هذا التاريخ، كيف ترى حضور الثقافة العربية في إسبانيا اليوم؟ هل هناك اهتمام باقتفاء أثر تلك الثقافة؟
- دائماً ما كنت محاطاً بأصدقاء مستعربين وبأشخاص على اطلاع جيد بالإرث الثقافي العربي. رحلتي الأولى للعالم العربي قمت بها وأنا في الثانية والعشرين، في صيف 1967. لقد تجولت في أغلب مدن المغرب. وكانت فاس أكثر مدينة أبهرتني. ما زلت أحتفظ بصور من هذه الرحلة، وكنت برفقة صديق إسباني وآخر فرنسي. ثم سافرت لألقي محاضرات في الجزائر وتونس والأردن وسوريا ولبنان وتركيا. واستمتعت كثيراً بمعرفة مدن وآثار. أعتقد أن الإسبان، بشكل عام، وأبناء الجنوب بالتحديد، يشعرون بألفة كبيرة مع العالم العربي. لا شيء أهم من التقارب المتبادل والإخاء.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟