وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

سؤال العصر: أين أعمل؟!

هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي قد يطرحها الإنسان خلال حياته العملية، وهو سؤال مشابه لـ«كيف أختار شريك حياتي؟».
إن العمل والزواج هما أهم جانبين يعيشهما الإنسان، ولهذا فلا يمكن تصور سعادة الإنسان إذا ما كان عمله أو زواجه مصدر شقائه. والأهم من هذا أن الإنسان لن يكون منتجاً في الاقتصاد طالما يعاني من زواجه أو من عمله.
ولقد مرت عليّ ليالٍ طويلة أتساءل فيها «هل أستمر في هذا المكان الذي أعمل فيه أو هل أنتقل إلى غيره؟ وهل أقبل بهذا العرض المغري مادياً من هذه الشركة أم أبقى في المكان الذي أعمل فيه؟» ولعل هذا الأمر من أكثر الأمور التي يمر بها أي إنسان طيلة حياته.
إذاً أين أعمل؟ أي الأماكن أختار؟ في البداية يجب أن نعترف أن الإنسان لا يستطيع الاختيار إذا ما كان عاجزاً أو لا يمتلك الحرية أو الموارد الكافية لإعطائه القدرة على الاختيار.
ولهذا، فإذا كنت شخصاً بلا مؤهلات ولا كفاءة ولا أدوات تساعدك على العمل فلا يجب أن تسأل كثيراً «أين أعمل؟» في بداية حياتك العملية، إذ المهم هو أن تجد عملاً وتتعلم فيه وتكتسب الخبرة اللازمة للانتقال إلى غيره في المستقبل.
ولأن العمل مثل الزواج، فإن الإنسان قد لا يرتبط بمكان أو بشريك حياة فترة طويلة من الزمن، وليس من المعيب أن ينتقل الإنسان من عمل إلى آخر أو من شريك حياة إلى آخر. ولكن يجب أن ندرك أن هذا الانتقال لا يمكن أن يكون سريعاً، لأن المطلوب هو الجدية والصبر سواء في العمل أو في الزواج.
إذاً فإن البداية تكون دائماً من الاستثمار في الذات والنفس من خلال التعليم واكتساب المهارات والخبرة التي تزيد من قيمة الإنسان في سوق العمل، ومن ثم تساعده في اختيار الخيار المناسب. وحتى وإن أراد شخص ما فتح مشروع صغير، فإن أنجح المشاريع هي التي لديها رأسمال كافٍ يساعدها على النمو، وأسوأها هي التي يتم استهلاك دخلها في التكاليف، ولهذا لا يبقى لها ما يساعدها على النمو.
وإذا ما امتلك الإنسان الأدوات الكافية ليكون مستقلاً في قراره ومطلوباً في سوق العمل، هنا يأتي الأمر الآخر وهو اختيار البيئة. وفي الزواج كما في العمل، فإن أفضل بيئة هي البيئة التي تقدرك وتحترمك وتعطيك الحرية ولا تسعى لامتلاكك، بل لتحفيزك للبقاء فيها.
لقد دخلت إلى أماكن كثيرة، وكنت أرى الموظف بها أقرب إلى العبد، يجبره على البقاء فيها ذلك الرباط المقدس الذي لا ينتهي سوى بالتقاعد مثل الرباط الكاثوليكي المقدس الذي لا ينتهي سوى بالموت. هذه هي البيئات التي يموت بها الإنسان.
إن بيئة العمل الصحية، باختصار شديد، في وجهة نظري، هي التي تضع أهدافاً واضحة للعامل ثم تمكنه لتحقيق هذه الأهداف، وتعطيه الصلاحية لأخذ القرارات لتحقيقها وفي نهاية كل ربع أو عام تحاسبه عليها. ولنتخيل ذلك الزواج الذي يتدخل فيه أحد الطرفين في كل شؤون الآخر ولا يعطيه أي حرية للتفكير أو لاتخاذ قرار. هذا الوضع نشأ مع ثقافة مجتمع كلها مؤسسة على الفرض، ولهذا يخرج الإنسان منها إلى العمل ليطبق ما يراه في بيته منذ صغره في كنف عائلة متسلطة لا احترام فيها لرأي. وفي النهاية نطلب بكل استخفاف من هذه البيئة أن تخرج لنا عظماء ومبدعين. لقد كان الإبداع في الماضي تمرداً على المجتمع ولهذا تم تكفير مبدعين وفلاسفة وعلماء أو حتى قتلهم في المشرق أو في الغرب.
إن البيئة التي تنظر للإبداع على أنه تمرد هي أردى البيئات البشرية، والبيئة التي لا تحترم الاختلاف نهايتها الخراب، والبيئة التي لا تجعل سعادة كل من بداخلها هي الأولوية هي جحيم يومي، والنظام الذي يبارك كل هذا سينساه التاريخ.
أتمنى بعد هذا الشرح المبسط أن أكون قد وفّرت بعض الإجابة اللازمة لهذا السؤال المهم.