مروان خوري يطرب «صاحبة السعادة» إسعاد يونس ويشاركها ذاكرته

حلقة أخرج فيها «الطفل المدلل» من داخله

مروان خوري وإسعاد يونس
مروان خوري وإسعاد يونس
TT

مروان خوري يطرب «صاحبة السعادة» إسعاد يونس ويشاركها ذاكرته

مروان خوري وإسعاد يونس
مروان خوري وإسعاد يونس

يستحيل ألا تلمح نفسك في أغنيات هذا الرجل. شيء فيه مثل المرآة، يتقن الانعكاس على المشاعر والقلوب، وجعلها على صورته. يطرب مروان خوري محاورته إسعاد يونس، وفي لحظة بهجة فنية، تهلّل له: «الله على النوستالجيا»! كان ذلك حين غنّى رائعته «دواير» من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، والأنامل تعزف على البيانو. تستضيفه في «صاحبة السعادة» على قناة «دي إم سي» وتُبحر في ذاكرته. لم يغادره ذاك الطفل المستلقي في داخله. رجل كمروان خوري ينضج مع العمر، إلا أنّ ضحكات الطفولة الأولى تصدر أصواتاً لا تزال مسموعة. خجله الجميل فرادته.
هادئ الأستوديو، كجلسة شفاء. ونوع إسعاد يونس يريح الضيف، فهي مستمعة باهرة ومحاورة راقية، جلساتها تمنح النفس سكينة. تشكل مع مروان خوري تناغماً نادراً. يناديها «مدام إسعاد» بكثير من الهيبة، وتحاوره بكثير من الاحترام. تستضيفه للاحتفال به من دون إشارة إلى أنّ الحلقة احتفالية. تُبقيه على راحته، يتذكّر ويتحدّث ويغنّي، ومعاً يتنقلان من محطة حياة إلى أخرى.
يقع مروان الطفل بين يديها، ثم مروان الفنان ومروان العاشق. لم تعامله بصفتها إعلامية، تسأل وتنتظر الجواب. كانا نجمين في جلسة ذكريات. كأنهما يعرفان بعضهما البعض ويتوّجان المعرفة العميقة بحلقة رائعة. سألته عن الطفولة فأخبرها. سألته عن الحب والزواج المتأخر، فصارحها. وسألته عن الفن وبدايات اكتشاف الموهبة. وعن التكريمات والجوائز وحب مصر. شاءت النبش في أعماقه، فشرّع بابه لتدخل.
حلمت أمه بالغناء، فحالت بيئتها المحافظة دون تحقيق شغف العمر. راحت تبحث في أولادها عمن يعوّض الأحلام المُجهَضة. وحين اكتشفت في مروان روحاً فنية، لمحت فيه نفسها وما لم تحققه فاتّخذ شكل غصّة. ألا يُقال إنّ بعض الأبناء امتداد لنواقص الآباء، مع بعض العوض؟
لم يُكتب لصاحبة الصوت الجميل، والدته، أن تصبح مغنّية، فإذا بابنها الوحيد بين ابنتين يُلقّب بالفنان الشامل وينال التكريمات، آخرها في «مهرجان الموسيقى العربية» والغناء على خشبة «مسرح النافورة» داخل دار الأوبرا المصرية. كانت تغنّي لصباح، هذه الأم التي تأثّر بها وأحبها حد الامتلاء، مما جعله يكتفي بنبع الحنان الأول ولا يشعر بحاجة إلى غير أنثى. كانت علاقته بها «طبيعية جداً»، لكنها لفرط عاطفتها، أحاطته بحب عظيم ودلع استثنائي. «أبو مروان وأم مروان»، كم أفرحه هذا النداء لوالديه وأشعره بفخر أنه «الذكر» بين صبايا العائلة!
ليس تمييزاً ولا تكريساً للفوارق، بل إفراط في الاحتضان. أخبرها أيضاً عن آلام في معدته رافقت ولادته حتى عمر السنتين تقريباً، ثم تلاشت مع الوقت. تصنعه طفولة يصفها بـ«المشبّعة»، وحنان عائلة رُزقت صبياً بعد ابنتين في ذلك الوقت، فأعطته دلع الأرض. مع الرقّة، كان مروان خوري عصبياً. يضيف في سرد حكاياته أنّ شخصيته احتوت النقيضين: نعومة الملامح وفقدان القدرة على ضبط الغضب، فراح يكسّر ما تطاله اليد. بلغ الخامسة عشرة، فتكوّنت شخصيته التي هو عليها اليوم.
يكمل البوح لـ«مدام إسعاد» السعيدة بالإصغاء والتلقّي. بدت الموسيقى بمثابة متنفّس لغضب كان يعتري مروان خوري برغم إحاطته بالحب والدفء. غضبٌ لا تفسير له وهو نفسه لا يجيد شرحه. كما لا يجيد فهم الوقوع في الحب والإجابة الكاملة على استفهاماته: «نُغرم ثم نبحث عن إجابات للأسئلة»، يشارك إسعاد يونس فلسفته، مع اعتراف: إقامة العلاقات قبل الاستقرار العاطفي. شيءٌ من الداخل، ربما ذاك الطفل المدلل، وربما ابن الأم الحنونة، لم ينضج عاطفياً مع تعدد النساء في حياته إلا بعدما ابيض الرأس وهرولت السنوات أمامه. يصل متأخراً، ويعوّض الوقت.
أهدوا الصبي رشاشاً في العيد، لاعتبار أنّ القتال لعبة الرجل. وأهدوا شقيقته بيانو يعزف موسيقى واحدة فقط لا غير. أهمل رشاشه واستجاب لنداء البيانو. مع الوقت، شعر بالحاجة إلى الآلة الموسيقية في حياته. كأنه من خلاله يقول ما لا تقوى الكلمات على قوله. هو الخجول حد الانزواء، صاحب الملامح «الأنثوية»، الذي تعرّض للتنمّر في المدرسة حين أصرّ صبيان الصف على جعله يرتدي تنورة لتناسب الرقصة مع صبي على اعتبار أنه الفتاة. شعره الأشقر الطويل، جعله عرضة لسماجة الدعابة، فتدخلّت الوالدة لدى الإدارة ووضعت حداً للفوارق وأعادت الاعتبار للصبي ومكانته.
قرأ باكراً جبران خليل جبران ومنه استلهم حب الشعر، وبدأ كتابته في سنّ الثانية عشرة. يعود دائماً إلى الفطرة باعتبارها أصل موهبته. فنموّ الفنان فيه مردّه إلى العفوية الطبيعية، لا التفتّح المُتعمّد قبل أن تدرك العائلة أنها تحظى بجوهرة فنية تستحق الصقل.
غنّى في استوديو «صاحبة السعادة» أجمل الأغاني. عذبٌ هذا الرجل بكامل إحساسه أمام البيانو وتحت الأضواء الخافتة بين الجدران الهادئة المحفّزة على الصفاء. جميلُ الأغنيات منتظرٌ بعد الصلح مع إليسا. أعلن تجديد الودّ بينهما، فإذا بإسعاد يونس تكلل المصالحة بدعوتهما إلى الملوخية والحمام المحشي مع شربات اللوز. تقبل إليسا الدعوة: «من إيديكِ يا ست الكل».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».