عبد اللطيف وهبي... محامٍ قاد ثورة في «الأصالة والمعاصرة» المغربي

يساري يترأس حزباً ليبيرالياً

عبد اللطيف وهبي... محامٍ قاد ثورة في «الأصالة والمعاصرة» المغربي
TT

عبد اللطيف وهبي... محامٍ قاد ثورة في «الأصالة والمعاصرة» المغربي

عبد اللطيف وهبي... محامٍ قاد ثورة في «الأصالة والمعاصرة» المغربي

سيظل يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي يوماً مشهوداً في مسار عبد اللطيف وهبي، الأمين العام لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي الليبرالي المشارك في حكومة عزيز أخنوش، ففي ذلك اليوم أكمل وهبي ملامح عهد قيادته للحزب من خلال الإعلان عن أعضاء مكتبه السياسي لدى اجتماع مجلسه الوطني (برلمان الحزب) في مدينة مراكش.
وبعد مرور نحو 21 شهراً على وصوله إلى قيادة الحزب، التي تولاها يوم 9 فبراير (شباط) 2020 في ظروف غير مريحة البتة، اتسمت بوطأة جائحة «كوفيد – 19» وتداعياتها، والإعداد لخوض «ماراثون» انتخابات 8 سبتمبر (أيلول) الماضي، ها هو وهبي يطوي فصلاً من كتاب مساره. إذ استطاع تجاوز الأنواء والعبور بسفينة حزبه إلى بر الأمان، والمحافظة على مكانته في المشهد السياسي، بل إنه كان قاب قوسين أو أدنى من الظفر برئاسة الحكومة. وهكذا، دخل في تحالف مع غريمه اللدود أخنوش، وحصل على مقاعد حكومية معتبرة.
لم يكن تعيين عبد اللطيف وهبي، الأمين العام لحزب «الأصالة والمعاصرة»، وزيراً للعدل في حكومة عزيز أخنوش يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلا تتويجاً لمسار رجل سياسي له ماضٍ حافل بالنضال السياسي والحقوقي. فمنذ انتخابه أميناً عاماً للحزب، دشّن وهبي مساراً جديداً له، ورسم هدف إخراجه من حالة الصراع والجمود، معلناً عن طموحه بأن يكون جزءاً من الحكومة المقبلة، وهو ما تحقق على أرض الواقع.
- تارودانت والمقاومة
ولد وهبي عام 1961 في مدينة تارودانت (شرق أغادير)، وأصبح منذ سبتمبر الماضي عمدة لها، وممثلاً لها في البرلمان، وفتح عينيه وسط أسرة مقاومة ضد الاستعمار.
والده كان أمازيغياً ينتمي لمنطقة سوس (وسط المغرب) وأم تنحدر من منطقة الريف (شمال). وروى وهبي في تصريحات صحافية سابقة أن والده كان تاجراً ميسور الحال قبل زواجه بوالدته. وانخرط في حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في مدينة الدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى شمال البلاد (المحتل آنذاك) من طرف إسبانيا، وهناك تعرف على زوجته الريفية التي أنجبت له عبد اللطيف.
وبعد استقلال المغرب، انخرط والد وهبي، في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي خرج من عباءة الحزب الأول. وكانت تربطه علاقات مع قياداته مثل عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي، وكان هؤلاء يزورونه كلما حلوا بتارودانت.
وفي مسقط رأسه، تدرج وهبي دراسياً حتى حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة). قبل أن ينتقل إلى الرباط لدراسة القانون في جامعة محمد الخامس ويحصل على شهادة الإجازة. ولأنه كان مهووساً بمهنة المحاماة، بدأ تدريبه في مكتب المحامي الراحل أحمد بنجلون، أحد قيادات حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي (حزب انشق عن الاتحاد الاشتراكي في عقد الثمانينات). بيد أن ميول عبد اللطيف اليسارية كانت بادية عليه قبل تجربة المحاماة ولقائه بنجلون. فهو انخرط مبكراً في شبيبة حزب الاتحاد الاشتراكي. وعام 1989 انضم للجمعية المغربية لحقوق الإنسان (جمعية حقوقية يسارية)، كان يتابع أنشطتها منذ كان تلميذاً في تارودانت، كما انخرط لاحقاً في حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي اليساري.
- محامٍ لامع
عام 1996 غادر وهبي حزب الطليعة، وتوقف عن ممارسة العمل الحزبي لسنوات، واهتم بمهنته، وطوّر نفسه ليصبح محامياً ناجحاً وذائع الصيت في الرباط. وبقي على هذه الحال إلى أن انخرط في حزب «الأصالة والمعاصرة» عام 2010.
عام 2011 ترشح للانتخابات البرلمانية، بيد أن التحول الكبير في مساره سجله حين قاد في 2019 حركة تصحيحية لتغيير مسار الحزب وتبوء قيادته، إلى جانب حصول حزبه في انتخابات 8 سبتمبر على 87 مقعداً نيابياً، وحلوله ثانياً بعد حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي حصل على 102 مقعد. وتلك الانتخابات عرفت تقهقر حزب العدالة والتنمية (مرجعية إسلامية) بحصوله على 13 مقعداً بدل 125 مقعداً في اقتراع 2016.
اشتهر وهبي بدفاعه عن الطلبة المعتقلين في أحداث الجامعة خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. واعتبر الأحكام التي صدرت في حقهم أنها «قاسية»، كما اشتهر بمرافعاته لصالح رجال الأعمال المعتقلين في حملة التطهير التي قادها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري عام 1995، وجرى تبريرها بمحاربة التهريب والحد من الممارسات المنافسة للاقتصاد الوطني.
- «الأصالة والمعاصرة»... التأسيس
عام 2008، أسس حزب «الأصالة والمعاصرة» عدد من الشخصيات تنتمي لمشارب سياسية مختلفة (رسميون ويساريون ويمينيون وأعيان) أبرزهم فؤاد عالي الهمة، الذي سرعان ما انسحب من الحزب، وعُين مستشاراً للملك محمد السادس. ونجح الحزب بسرعة في تصدر المشهد السياسي، حين حصد المرتبة الأولى في الانتخابات المحلية عام 2009، وكان يراهن على الفوز في الانتخابات التشريعية لعام 2016.
وخلال الولاية التشريعية 2011 – 2016، برز وهبي، كرئيس لفريق الحزب في مجلس النواب، وشكل محور المعارضة ضد حكومة عبد الإله ابن كيران. وترأس فيما بعد لجنة العدل والتشريع في مجلس النواب، كما انتخب نائباً لرئيس مجلس النواب. لكن التحول الكبير حصل حين أعلن عام 2019 عن تأسيس «تيار المستقبل» في «الأصالة والمعاصرة»، وتجمع حوله عدد من قياداته في مواجهة التيار الذي كان يقوده حكيم بنشماش، الأمين العام السابق للحزب.
وبعد نتائج انتخابات 2016، التي حل فيها «الأصالة والمعاصرة» ثانياً، قدّم إلياس العماري، الأمين العام الأسبق استقالته، وعُقد مؤتمر استثنائي انتُخب خلاله بنشماش أميناً عاماً جديداً، بدعم من وهبي، لكن سرعان ما برزت الخلافات بينهما، وسط تهم إهمال الديمقراطية داخل الحزب، والبقاء رهينة لدى الأمين العام الأسبق. وهو ما دفع وهبي إلى الدعوة لعقد مؤتمر للإطاحة به، رافعاً شعار مراجعة توجهات الحزب، واعتماد الديمقراطية في اتخاذ القرارات. وفعلاً، عُقد مؤتمر صاخب في مدينة الجديدة (جنوبي الدار البيضاء) في فبراير 2020، جرى خلاله انتخاب وهبي أميناً عاماً جديداً للحزب، الأمر الذي أحدث تحولاً بارزاً في مساره.
- نقد ذاتي... ورياح منعشة
أعلن وهبي استعداده لإجراء نقد ذاتي جريء لمسار حزبه وتغيير توجهه. إذ التصقت بالحزب تهمة «حزب الدولة» و«حزب التعليمات» تبعاً بظروف تأسيسه، لكن وهبي أتى لإنهاء هذه الحالة، وجعل «الأصالة والمعاصرة» حزباً طبيعياً عادياً، مشدداً على ضرورة القطع مع ربط الحزب بالدولة، وتحاشي «الاستقواء بالسلطة»، والخضوع للالتزامات التي ينص عليها دستور المملكة.
ووعد وهبي أيضاً بإعادة هيكلة الحزب ليكون منفتحاً على الشباب وعلى عموم المواطنين، وضمان «استقلالية القرار الحزبي». وكان دائماً يردد أن «أحزاب الدولة فشلت في الدول العربية مثل تونس وسوريا والعراق».
وثمة نقطة لا يجب نسيانها هي أن «الأصالة والمعاصرة» رفع منذ تأسيسه شعار «محاربة الإسلاميين»، لكن وهبي قلب المعادلة، معتبراً حزب «العدالة والتنمية» «حزباً وطنياً» يعمل في إطار الدستور، ومعلناً استعداده للحوار والتعاون معه، بل إنه ذهب بعيداً حينما اعتبر أن «إمارة المؤمنين ووزارة الأوقاف أيضاً تعبير عن الإسلام السياسي»، وأن ما يجب رفضه هو «التوظيف السياسي للدين»، وأثار هذا التصريح في إبانه جدلاً كبيراً.
رفع وهبي أيضاً شعار تحقيق انفراج سياسي من خلال إطلاق سراح معتقلي أحداث الريف، التي اندلعت عقب وفاة بائع سمك طحناً في عربة لتدوير النفايات، ونادى باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو خطاب أعطى دينامية سياسية جديدة لـ«الأصالة والمعاصرة»، وبدا أن رياحاً منعشة تهب على هذا الحزب.
- مواقف وتصريحات مثيرة
مواقف وتصريحات وهبي المثيرة جعلته محط أنظار المتتبعين، خاصة حين يثير ملفات ساخنة بجرأة غير معهودة، آخرها إعلانه في برنامج تلفزيوني، وهو وزير للعدل أنه يعتزم رفع ملتمس إلى الملك محمد السادس بقصد العفو عن معتقلي حراك الريف، الأمر الذي أثار لغطاً، بين مشيد بالخطوة ومنتقد لها. والمعروف أن العفو يبقى من صلاحيات الملك، ولا دخل لوزير العدل فيه.
وفي الآونة الأخيرة، أشار وهبي، في جلسة برلمانية، إلى أنه طلب من رئيس الحكومة تخصيص موازنة لاقتناء سيارات فاخرة لفائدة المسؤولين القضائيين، لأنهم، حسب قوله، يركبون سيارات لا تليق بهم. ووعد بالاهتمام بأبنية المحاكم، وتخصيص أماكن لراحة القضاة والمحامين، ومطاعم، قائلاً: «لا يعقل ألا يجد القضاة والمحامون أماكن لأخذ قسط من الراحة».
أيضاً، كان وهبي - قبل استيزاره - من المبادرين إلى تشكيل لجنة استطلاعية برلمانية لدراسة أوضاع العالقين في سوريا والعراق ممن التحقوا بتنظيم داعش. وترأس اللجنة التي عملت لأشهر، وأصدرت تقريراً بعدما استمعت لأفراد من عائلات العالقين ومنهم عائدون من بؤر القتال، قضوا عقوبات في السجون المغربية قبل الإفراج عنهم.
وإبان الحملات الانتخابية الممهدة لانتخابات 8 سبتمبر، كان وهبي يردد بثقة بأن حزبه يتجه للحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات. وحين كان يُسأل «هل أنت مستعد لتكون وزيراً في حكومة يرأسها حزب التجمع الوطني للأحرار؟»، يرد قائلاً: «إما أن أتصدر النتائج وأكون رئيساً للحكومة، وإلا فلن أكون وزيراً في حكومة يرأسها حزب آخر»، وبرر ذلك بأنه أمين عام حزب سياسي، ولا يمكن لأمين عام حزب آخر أن يرأسه في الحكومة.
كرر وهبي هذا التصريح أكثر من مرة. وحين ظهرت نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز «التجمع الوطني للأحرار»، وُجه إليه السؤال ذاته، فكرر جوابه السابق، لكن اجتماعاً للمجلس الوطني للحزب (أعلى هيئة تقريرية فيه بعد المؤتمر)، أعلن قرار المشاركة في الحكومة، وطلب من وهبي شخصياً المشاركة فيها، ليتبين أن للسياسة إكراهاتها.
على صعيد آخر، من مواقف وهبي قبيل انتخابات 8 سبتمبر، دعوته إلى حل مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان)، معتبراً إياه مجلساً «يهدر الزمن التشريعي»، كما انتقد تمثيل النقابات ورجال الأعمال في المجلس لأنهم يتصرفون «بمنطق المصالح». ويتكون مجلس المستشارين من 120 عضواً ينتخبون من طرف هيئات ناخبة تمثل الجماعات المحلية (البلديات)، والجهات، والنقابات، ورجال الأعمال، وله نفس الصلاحيات التشريعية لمجلس النواب، رغم أن الحسم يكون لهذا الأخير.
وسبق لوهبي أن وجه انتقادات لاذعة لحزب «التجمع الوطني للأحرار» ولرئيسه وزير الفلاحة السابق (رئيس الحكومة الحالي) أخنوش لتوزيعه مساعدات قبل الانتخابات من خلال جمعية خيرية تسمى «جود»، وهو سلوك اعتبره وهبي آنذاك «فضيحة سياسية». لكنه عاد وتحالف مع أخنوش بعد ظهور نتائج الانتخابات. وبعدما صارا معاً في الحكومة، قال وهبي عن أخنوش: «اختلفت معه كثيراً خلال الانتخابات... وكان الصراع انتخابياً... صراع وجود، وصراع موقع وتموقع، لكن حينما عملنا مع بعض في الحكومة، اكتشف كل واحد منا الآخر، وأصبح أخنوش صديقاً قريباً مني... وكثيراً ما نفتح الحوارات بيننا، وعلاقتنا جيدة جداً».
- العلاقة مع الملك
لا يجد عبد اللطيف وهبي حرجاً في التحدث عما دار بينه وبين الملك محمد السادس حين استقبله بعد انتخابه أميناً عام للحزب، إذ قال، في أحد حواراته الصحافية، إن «الملك بطبيعته يجعلك مرتاحاً في الحديث إليه، بل يشعرك بالاطمئنان والراحة لتتحدث إليه بصراحة ووضوح». وأضاف أنه تحدث مع الملك محمد السادس عن كل شيء... من السياسة إلى تارودانت. وأوضح أن العاهل المغربي له «طموحات كبيرة جداً ومتتبع وملم بكل تفاصيل الأمور وقضايا البلد».
وكشف وهبي أن لقاءه مع الملك محمد السادس دام 20 دقيقة، وقال إنه «يحسن الاستماع، وعندما يعقب عليك فهو يطرح أسئلة دقيقة، ويكن احتراماً كبيراً للجالس أمامه».
وحين أصدر حزب «الأصالة والمعاصرة» كتابا حول تجربته، حرص وهبي على بعث نسخة منه هدية إلى الملك محمد السادس، فتلقى رسالة شكر منه، نشرها على موقع الحزب.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.