محاورة تشكيلية مصرية حول «ثنائية الإنسان والمكان»

معرض لإبراهيم فيليب ومريام واصف يضم 162 لوحة

من بين لوحات واصف التي تهتم بالأمكنة وذكرياتها (الشرق الأوسط)
من بين لوحات واصف التي تهتم بالأمكنة وذكرياتها (الشرق الأوسط)
TT

محاورة تشكيلية مصرية حول «ثنائية الإنسان والمكان»

من بين لوحات واصف التي تهتم بالأمكنة وذكرياتها (الشرق الأوسط)
من بين لوحات واصف التي تهتم بالأمكنة وذكرياتها (الشرق الأوسط)

يتسلل المكان إلى وجدان الإنسان محدثاً آثاراً عميقة تلامس الذات، وتشكل جزءاً حميمياً من كيانه، وكثيراً ما ألهمت هذه المتلازمة الفنانين عبر تجارب إبداعية ثرية من أحدثها معرض تشكيلي للفنانين المصريين إبراهيم فيليب ومريام واصف، المقام حتى 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بعنوان «ثنائية الإنسان والمكان» بغاليري «ضي... أتيليه العرب للثقافة والفنون» بالقاهرة.
وترجع فكرة المعرض للناقد التشكيلي هشام قنديل رئيس مجلس إدارة الأتيليه الذي رصد تجربتين مستقلتين للفنانين يجمع بينهما رابط قوي، فبعدما لاحظ احتفاء إبراهيم فيليب بالإنسان، اكتشف أن مريام واصف تهتم بالمكان، فقرر أن يجمعهما في معرض واحد يمثل محاورة تشكيلية بينهما، يقول قنديل لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ترابط في هذه الحياة أكثر من ثنائية الإنسان والمكان، حيث تنشأ بينهما دوماً علاقة حيوية تسهم في تأسيس أحد أهم الجوانب الروحية الخفية للإنسان وهي الذاكرة، فيما يكون للإنسان بلمساته ومواقفه المختلفة بالغ التأثير على المكان».
وعبر 47 لوحة تشارك بها مريام واصف في المعرض، يعيش المتلقي مع ذكريات الفنانة المولعة بتجسيد المكان، فبعد أن قدمت لنا في معارضها السابقة منطقتي «وسط البلد» و«مصر الجديدة» نجدها في هذا المعرض تنتقل بنا إلى مدن مصرية ساحلية على غرار الإسكندرية ومرسى مطروح لنعيش من جديد ذكرياتها في تلك المدن، وإن كانت هذه المرة مع البحر والتقائه مع السماء والإنشاءات المطلة عليه، مثل «كوبري المنتزه» و«كوبري ستانلي» في الإسكندرية.
وتقول واصف لـ«الشرق الأوسط»: «المكان مُلهم بالنسبة لي، ويشكل جزءاً أصيلاً من أعمالي، حتى أنه يمثل في كل لوحة ذكرى مختلفة عن الأخرى، فهو ليس مجرد شيء صامت إنما هو مليء بالمشاعر والأحاسيس، فمنطقة وسط البلد بالقاهرة، على سبيل المثال تعد قطعة من التاريخ والأحداث المهمة التي مر بها الوطن، كما أن مبانيها ذات الطراز الأوروبي بكل جمالها وعراقتها ما هي إلا محفز على الإبداع، بينما تمثل منطقة مصر الجديدة بشوارعها وأشجارها ومبانيها ذات الطراز الفاطمي صفحات لا تُنسى من طفولتي، حين كنت أتجول فيها مع أسرتي، ولذلك شغلت هذه الأماكن وغيرها فضاءات لوحاتي».
وتبرز لوحات واصف بهذا المعرض انتماءها للمدرسة التأثيرية بوضوح، فقد ساعدها خروجها من المرسم إلى الطبيعة لتجسد أجواء مصر والبحر الممتد والسماء بألوانها المتغيرة وطاقة الشمس بها على الاحتفاء بالإضاءة والظل إلى جانب الثراء اللوني والمساحات اللامحدودة من الفراغ.
وتكمل أعمال الفنان إبراهيم فيليب التي يبلغ عددها نحو 115 لوحة هذه الثنائية التشكيلية، حيث يظهر جلياً انشغال الفنان إبراهيم فيليب بالإنسان، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «أهتم للغاية بحكاية الإنسان بكل تفاصيلها وزخمها، فأنا أسكن بشارع (الحكمة) القابع في منطقة شعبية معروفة بسكانها الطيبين بمدينة طنطا، (وسط الدلتا)».
كان نتيجة ذلك أن الفنان قدم لنا لقطات مختلفة لسكان المدينة في لوحاتٍ فنية تعج بالشخوص والتفاصيل والموتيقات التي تشعرك أنك واحد وسط هذا المشهد الصاخب المليء بالحركة والصوت، يتابع قائلاً: «لا شك أن الفنانين من مختلف المدارس يوجهون اهتماماً خاصاً للإنسان، حتى في التجريدية التي يقدمون فيها علاقات لونية تتحول إلى علاقات درامية على المسطح فإن المتلقي حين يدقق النظر سيعثر على الإنسان داخل اللوحة، وذلك في صورة المشاعر والرؤى التي تجسد الفنان نفسه، وفي لوحاتي أعرض مشاهد يومية للسوق، لكن بطريقتي الفنية الخاصة، حيث أبتعد عن التجريد والمفاهيمية، وأرسم كمصري حتى النخاع معتمداً على التعبيرية».
تسلط اللوحات الضوء على البسطاء والمهمشين في المجتمع، لا سيما النساء في الأحياء الشعبية: «قلما أرسم الرجل، لأن المرأة تتصدر من جهة فئة المهمشين، ومن جهة أخرى هي الأكثر تأثيراً في المجتمع»، فتطالعنا في الأعمال بائعات الفاكهة بنظرات من الفرحة والأمل في بداية اليوم، لكن قد نصطدم بالحزن والإنهاك اللذين يكسيان وجوههن في نهاية اليوم حيث غروب الشمس في الخلفية في دلالة لحالة الكساد والفشل في البيع، كما يصورهن وهن يتناولن طعامهن على قارعة الطريق، ونشاهد الأمهات وهن ينشرن الغسيل في بيوتهن مع بناتهن أو هن يتسامرن وتملأ الابتسامة وجوههن في بيوتهن المتواضعة».
من خلال أعمال فيليب بالمعرض نستعيد أعمال معروفة عديدة تؤكد احتفاء الفن التشكيلي العالمي بالإنسان البسيط العادي منها لوحة «زوجات عمال الفحم» لفنسنت فان جوخ، ولوحة «الكناس» للفنان هوفيفيان والتي تصور رجلاً يرتدي رداء أصفر يحمل بين يديه مكنسة ينظف بها الأزقة، وهناك أيضا تجسيد مؤثر لـ«الطباخين» في رائعة بيتر برويجل «وليمة»، كما برع الفنان الفرنسي هنري لوتريك في تجسيد آلام وأوجاع راقصات الحانات، فيما يمكن تفسيره بأن تحرر الفنان التشكيلي من سلطة الطبقة البرجوازية قد ساهم في توسعه في تعبيره عن الإنسان، ومن ناحية أخرى لا يمكن إغفال أن تحرر الفن التشكيلي أيضا من مذهب الواقعية المفرطة قد ساعد على براعته في التعبير عن واقعه مانحاً للإنسان العادي والطبقات الاجتماعية الهامشية قيمة كبيرة فيه».
ولعب الفنان بالألوان ما بين الساخنة والباردة بدرجاتهما معتمداً عليها كحلول لونية ذات دلالات موحية، كالتعبير عن حميمية المشاعر أو حالة الكساد في السوق، كما اهتم بخلق مساحات من الظل والظلام في الأعمال، رافضاً أن تكون السيادة للضوء تأكيداً لمفهوم الإنسان المهمش الذي يحتفي به.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».