أسهم التطور النوعي والأداء المتقدم في وسائل الاتصال والإعلام، بالمملكة العربية السعودية، في ترسيخ عصر جديد لتكنولوجيا الاتصال والمعرفة الرقمية. وجاء الإعلام الرقمي التفاعلي كنتيجة مذهلة لمخاض الإعلام بين سؤالي الوسيلة والمحتوى، وبتوظيفه لأدوات عصرية وجديدة، وتبنّيه لتغييرات وتحولات جذرية تجاوزت الأطر التقليدية. وهكذا ظهر نمط جديد في صناعة المحتوى الإعلامي، فقرّب المسافات الزمانية والمكانية وجمع بين رشاقة المحتوى وحيوية الوسيلة.
في غرفة العمليات الإعلامية يُسمع دويّ يملأ المكان لصوت نقر لوحات المفاتيح ورنين الاتصالات المتقاطرة وعمليات الترجمة المتزامنة، في تغطية دائبة ولا تهدأ لموسم حج هذا العام. ويقطن 150 إعلامياً من جهات إعلامية محلية وأجنبية في الغرف الملحقة بالتجمع المشترك الذي نصبته وزارة الإعلام السعودية بمحاذاة المشاعر المقدسة، يزوّدون جمهورهم المتعدد بتغطية مواكبة لحركة الحجاج في مكة المكرمة.
وفي الوقت الذي يفِد فيه الحجاج إلى الحرم المكي ثم إلى المشاعر المقدسة، كانت كاميرات البث المباشر والحيّ من قلب المشاعر تدير آلتها لتنقل اللحظات إلى عموم المسلمين الشغوفين بمتابعة سير عملية الحج وأداء النسك.
- مركز الإعلام الافتراضي
مركز الإعلام الافتراضي واحد من نوافذ الغرفة الإعلامية في حي العوالي بمكة، وهو يقدم الخدمات التفاعلية المواكِبة لأكثر من 700 إعلامي في أنحاء العالم، بمقدورهم تقديم استفساراتهم والتفاعل مع المؤتمرات الصحافية الخاصة بالحج، وبإمكانهم الاستفادة من المواد الخام المتوفرة في المركز من أجل رفد تغطياتهم من حيث يقطنون، وذلك حسب حديث إعلامي أدلى به الدكتور عبد الله المغلوث وكيل وزارة الإعلام للتواصل.
والواقع أن هذا المركز يشكل نقلة تقنية وثقافية كبيرة، لا سيما لدى المقارنة مع ما كانت عليه الحال قديماً. إذ تطورت آليات نقل مناسك الحج تبعاً لواقع حال التطوّرات التي طرأت على المشهد الإعلامي والصحافي، ولم يبقَ من زمن النقل البطيء إلا ذكريات روّاد تلك المرحلة، وحرارة الانتظار التي كان يعيشها المسلمون حول العالم بانتظار أن يصل إليهم خبر يتيم عن أوضاع الحجاج في الأراضي المقدسة.
- يوم للتاريخ
كان أول يوم عرفت فيه السعودية الإذاعة، هو 9 ذو الحجة من عام 1368هـ الموافق شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1949، وذلك حينما افتتحت الإذاعة إرسالها في حج ذلك العام بكلمة من الملك عبد العزيز آل سعود لحجَّاج بيت الله الحرام، ألقاها نيابة عنه ابنه الأمير فيصل (الملك فيصل بن عبد العزيز لاحقاً).
لسبر أغوار ذلك المفصل التاريخي تحدثت «الشرق الأوسط» إلى المذيع المعروف عدنان صعيدي، الذي عمل مشرفاً على «إذاعة نداء الإسلام». و«نداء الإسلام» إذاعة سعودية تبثّ من مكة المكرمة، تابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السعودية، بدأت البث أوائل 1962، وكانت تسمى سابقاً إذاعة «صوت الإسلام»، وجرى تغيير اسمها إلى إذاعة «نداء الإسلام» بعد عقد من انطلاقها.
واسترجع صعيدي ذكريات الحج، وكانت أجملها بالنسبة إليه في مراحل الصبا «وأكثرها تعباً العمل فيها، وأعذبها قبيل غروب يوم التاسع ونحن نقف في شرفة برج النقل الإذاعي والتلفزيوني بعرفات نعلّق على (إفاضة الحجيج من عرفات إلى المزدلفة)».
- من «الفاكس» إلى الجوّال
في قطاع الصحافة التي كانت شاهداً على كثير من التحولات في السعودية، وشهدت ازدهاراً مماثلاً مع كل المدخلات التقنية التي أضفت عليها طابع السرعة ورفع وتيرة مواكبة الأحداث، جاء جهاز «الفاكس» (الفاكسميلي) بمثابة فجر جديد للعمل الصحافي خلال موسم الحج قبل ثلاثة عقود. وكانت عملية نقل الجهاز بالتزامن مع تنقلات الحجاج من مشعر إلى آخر مسألة شاقة ومتعبة، نظراً لوزنه الثقيل. وهنا يتذكر خالد الحسيني في حديث مع «الشرق الأوسط» معاناة نقل جهاز الفاكس الخاص بفريق عمله بين مشعري عرفات ومنى، في ملاحقة مع الوقت لتسليم مواده قبل موعد صدور الصحيفة.
ثم يضيف قائلاً إنه بعد أربعة عقود من العمل الصحفي داخل المشاعر، «أتذكر المشقة تلك الفترة، وعدم وجود شركات توزيع للصحف... كنت أطلب 500 عدد ليوم عرفات وأيام منى، ثم أتواصل مع الجهات هاتفياً لإرسال مندوبيهم لتسلم الصحف، ويوزع الباقي مجاناً للحجاج والجهات المضيفة». ولكن، أضحى هذا الأمر من الماضي الذي طوته فتوحات التقنية والإمكانات التكنولوجية الهائلة. ففي يومنا هذا، تعمل الهواتف الشخصية الجوالة على توفير بديل فعال وممتع، وتسجيل لحظات ثمينة وحيّة من قلب الحدث لذوي الحجاج، وهم يشاركونهم تفاصيل تنقلاتهم وابتهالاتهم، أولاً بأول.
لقد تركت التغطيات القديمة إرثاً عريقاً لأجيال كاملة، كانت تقف على مجريات الحج باهتمام كبير وتوق إلى زيارة محفوفة إلى المشاعر المقدسة. أما الآن، فقد أخذ الإعلام الجديد بتقنياته العصرية وأدواته التفاعلية الفذّة، يزيح كثيراً من النوافذ التقليدية لنقل وتغطية الحج ويفوز بقصب السبق ويحتل المنصة.
وتأكيداً لذلك، تبنّت إمارة منطقة مكة المكرمة أخيراً جائزة مخصّصة للإعلام الجديد، إيماناً بأهمية الإعلام الرقمي والحديث في نقل توثيق للرحلة الإيمانية للحجاج ونقل الجهود المسخرة لخدمتهم وتسهيل أداء فريضتهم.