علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الكشف عن أُكذوبة عمرها 52 عاماً

يقول سيد قطب في المقال الرابع في كتابه الذي جمع زين العابدين الركابي مقالاته تحت عنوان «معركتنا مع اليهود»، «وتضمن القرآن من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرناً وما تزال حتى اللحظة...».
وفتح زين العابدين الركابي للجملة الأخيرة هامشاً قال فيه «صرخ جنود اليهود وهم يدخلون القدس يونيو (حزيران) 1967: محمد مات وخلف بنات!!!».
من مراجعة عجلى في البحث عن المصادر الأولى المكتوبة التي دوّنت هذه الحكاية التي كان يرددها بعض المدرسين شفاهة على طلبتهم في البلدان العربية وكأنهم شهود عيان عليها، وجدت أن أقدم مصدر مكتوب، هو كتاب الكاتب الإسلامي العراقي محمود شيت خطاب «الوحدة العسكرية العربية» الصادر عام 1969.
يقول في هذا الكتاب «حين دخل يهود مدينة القدس يوم 6 يوليو (تموز) 1967، كانوا يهزجون في المسجد الأقصى بالعبرية بما معناه: مات محمد مات... خلّف بنات، وقد أصغيت إلى الهزج السمج يذاع نصّاً من إذاعة عربية، ويعلق عليه المذيع ناقلاً معناه إلى العربية. ولعل الكثيرين من العرب والمسلمين أصغوا كما أصغيت إلى تلك الإذاعة، وشعروا كما شعرت بأن سهماً مسموماً أصاب كبدي فهو ينزف دماً ومرارة وحزناً وألماً».
وثاني مصدر ذكرها، مجلة «الأزهر» في عددها الصادر في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1969، ذكرها مختصرة عبد الرحيم فودة، مدير مجلة «الأزهر»، في افتتاحية العدد تحت عنوان «لن يموت محمد ولن تهوّد القدس». فلقد قال في هذه الافتتاحية «فإذا هتف اليهود عند دخولهم المسجد الأقصى: محمد مات، وانفجرت قلوبهم وعقائدهم بهذا النباح المنكر، فإنهم ينفسون بذلك عن حقد قديم توارثوه جيلاً ذليلاً عن جيل ذليل».
عبد الرحمن فودة تلقف الحكاية التي اختصرها من محمود شيت خطاب، إما من كتابه الصادر في العام الذي كتب فيه افتتاحيته وإما من أصل الكتاب، وهي محاضرات ألقاها محمود شيت خطاب على طلاب معهد البحوث والدراسات في قسم فلسطين في القاهرة في الأيام الأولى من أول شهر في عام 1969. ومحمود شيت خطاب اسم معروف لدى هيئة تحرير مجلة «الأزهر»، فلقد كان ينشر بعض المقالات في هذه المجلة.
ثم ما لبث بعد وقت قصير أن دوّن محمود شيت خطاب الحكاية برواية مختلفة في كتابه «أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية» الصادر في الشهر السابع من عام 1970، ممهداً لها بحكاية أخرى.
يقول في هذا الكتاب «في يوم 6 يونيو 1967، احتلت إسرائيل مدينة القدس القديمة. فبادر رئيس الدولة الإسرائيلية ورئيس وزراء إسرائيل ووزراء إسرائيل يتقدمهم الحاخام الأكبر الإسرائيلي إلى الزحف نحو حائط المبكي، وهنالك قال موشي دايان: اليوم أصبح الطريق إلى المدينة مفتوحاً.
واستباح اليهود حرمة المسجد الأقصى بالسماح للإسرائيليين من المجندين والمجندات بدخوله مرتدين ملابس فاضحة وهم سكارى كأنهم في الحانات أو أماكن الدعارة.
وانتهك جيش إسرائيل واليهود حرمة المسجد الأقصى. فكانوا يهزجون في باحاته يوم 6 يونيو 1967: مات محمد مات... خلَّف بنات!».
وقد كان روى هذه الحكاية بهذه الرواية المختلفة في بحث قدمه للمؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية الذي عقد في القاهرة خلال شهر ذي الحجة 1389هـ، الموافق شهر فبراير (شباط) 1970، والمنشورة أبحاثه في كتاب صدر في شهر مارس.
من الحكاية الممهدة أو الأولى، نفهم لماذا نصت كتب إسلامية لاحقة على أن موشي دايان هو الذي كان يصدح بهتاف «محمد مات... خلّف بنات» والجنود والمجندات كانوا الكورال الذي يردد معه هذا الهتاف.
وقد زيد هذا الهتاف فيما بعد بهتافين يسبقانه، وهما «يوم بيوم خيبر... يالثارات خيبر» و«حطوا المشمش على التفاح، دين محمد ولّى وراح». وفي هذه الزيادة كان قائد الجوقة أيضاً موشي دايان.
لن أخوض في تضارب روايات هذه الحكاية. وسأكتفي بالتنبيه إلى جملة أمور تبين لنا أنها حكاية ملفقة، مع التركيز على روايتي محمود شيت خطاب؛ لأن هذا الرجل هو الأصل في التلفيق المكتوب. وعلى الأغلب أن الحكاية انتشرت عن طريق كتابه الثاني «أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية». فهو يقول عن هذا الكتاب في مقدمة طبعته الثالثة «طبع هذا الكتاب في القاهرة خلال أقل من شهر واحد طبعتين: الطبعة الأولى هي طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في الجمهورية العربية المتحدة، وقد طبع منه خمسة آلاف نسخة. والطبعة الثانية هي طبعة مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، وقد طبع منه أحد عشر ألف نسخة.
ولكن هاتين الطبعتين نفدتا خلال أقل من أسبوع واحد حين إخراجها للناس في الجمهورية العربية المتحدة وحدها».
في رواية محمود شيت خطاب الأولى للحكاية سمع الهتاف باللغة العبرية مصحوباً بترجمة معناه إلى العربية، يذاع على الهواء من إذاعة عربية! ومما يدعو للشك أولاً، في هذه الرواية أنه لم يسمِ هذه الإذاعة العربية مع أنه لا يوجد سبب مقنع لعدم ذكره لاسمها. ويظهر لي أنه كان المستمع الوحيد إليها في العالم العربي. لأن لا أحد قبله ولا أحد غيره سمع نص ذلك «الهزج السمج» من إذاعة عربية. وإذا كان الهتاف نُقل في إذاعة عربية على الهواء فالصحف في البلدان العربية ستنقله في اليوم التالي. وستسطر حوله في أيام تالية مقالات ومقالات. لكن لا يوجد في أي مصدر صحافي عربي إشارة إلى هذه الحادثة المزعومة.
ومما يدعو للشك ثانياً في روايته هذه ذات المصدر الإذاعي العربي المجهول، أنه بعد مضي قليل من الزمن تخلى عن هذا المصدر، ليستبدل به رواية فاجرة، وهي أن المجندين والمجندات دخلوا المسجد الأقصى مرتدين ملابس فاضحة وهم سكارى، كأنهم في الحانات أو أماكن الدعارة!
وإذا كانت الإذاعة العربية في رواية محمود شيت خطاب الأولى، هي إذاعة مجهولة، فستصبح بعد مرور ما يقرب من العقدين عند كاتب إسلامي مصري مغمور اسمه السيد إبراهيم سليم إذاعة معروفة.
يقول في كتاب له اسمه «وباء الفتنة والتعصب وعلاجه في التوراة والإنجيل والقرآن»، صادر عام 1988 «يشهد الله أني سمعت بأذني هذا الهتاف من خلال المذياع، وهم يقولون: محمد مات... خلف بنات. ولقد كنت أثناء ذلك منضماً لكتائب الدفاع الوطني بعد أن تعطلت الامتحانات بالجامعة».
وإن سألتموني كيف أصبحت الإذاعة العربية في هذه الشهادة المتأخرة جداً، إذاعة معروفة؟ سأجيبكم: لأنه أورد اسم الإذاعة بأل التعريف ولم يورده بتنكير الاسم!
ومن تقليبي السريع لصفحات كتب الإسلاميين التي روت حكاية هتاف «محمد مات... خلف بنات» لم أجد كاتباً إسلامياً أحيا الرواية ذات المصدر الإذاعي التي أماتها محمود شيت خطاب في روايته الثانية سوى سي السيد هذا. وكما تلاحظون أنه رواها عن أذنه وليس عن طريق العنعنة.
ومما يدعو للشك ثالثاً في هذه الرواية ذات المصدر الإذاعي، أن محمود شيت خطاب، هو الذي أذاع ذلك الهتاف، بعد صراخ الجيش الإسرائيلي به في المسجد الأقصى بسنة وخمسة أشهر وثمانية وعشرين يوماً!
لنفترض أن سكان القدس كانوا في اليوم السادس من هزيمة 67 مشغولين بتجرع آلام هذه الهزيمة عن الاستماع إلى الإذاعة العربية التي التقط محمود شيت خطاب بثها في أثناء غدوه ورواحه بين بغداد والقاهرة، فلماذا لم ينقل سكان القدس – أو على الأقل بعضهم – خبر الهتاف إلى العالم العربي الذي وقع على مسامعهم إبان حدوثه؟!
في الحكاية إهانة واحتقار لجنس البنات، مطلق البنات، ولكل رجل ليس له عقب سوى بنات. والجيش الإسرائيلي من الجيوش التي جندت الفتيات منذ إنشائه، فكيف يصح عقلاً أن يرددوا هتافاً فيه إهانة واحتقار لرفيقاتهم في حمل السلاح.
الهتاف في رواية سائرة قاله الجنود الإسرائيليون باللغة العربية، قالوه بعبارة مسجوعة! وفي رواية محمود شيت خطاب الأولى قالوه بالعبرية. ولم يفصح لنا إن كانوا قالوه في هذه اللغة بعبارة مسجوعة، أم أنه بالعربي وبترجمة فورية هو الذي كان لا بد أن يكون في عبارة مسجوعة!
المتأمل في شكل الهتاف الأول والهتاف الثالث سيدرك أنهما صيغا على منوال الأهازيج الشعبية القديمة في بلدان الشام ومصر، وإذا ما صدقنا بصحتها، فإنه علينا أن نعتقد غصباً بأن هناك لحمة ووحدة في التراث الشعبي بين هذه البلدان العربية وبين إسرائيل اليهودية.
المتأمل في مضمون الهتافات سيلمس أن ملفقها كان يريد أن تكون معركة بعض الجيوش العربية التي خاضت حروباً مع الجيش الإسرائيلي، معركة دينية، معركة بين الإسلام واليهودية وبين المسلمين واليهود.
أسوأ ما في هذا التلفيق أنه يتفق ضمناً مع ما شتم به النبي محمد، مبغضه في مكة العاص بن وائل الذي نعته بالأبتر، وكان يعني به أنه ليس له عقب سوى البنات. فرد الله عليه بإنزال آية، وهي «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ».
إنه لمن الواضح أن هذا التلفيق مستمد من شرح هذه الآية وذكر سبب نزولها في كتب تفسير القرآن.
في كتابه «أحمد 1981 - ليس هذا ما حدث... هذا ما رأيته مما حدث»، الصادر في عام 2016، يروي الكاتب والصحافي أحمد سمير المولود عام 1981، حادثة وقعت له مع مدرس اللغة العربية عام 1992، وذلك حينما كان طالباً في مرحلة الدراسة الإعدادية.
يقول في هذا الحادثة «أحب مدرس العربي، لطيف ويحكي لنا قصصاً مسلية، يقول لنا:
- اليهود أما دخلوا القدس سنة 67، قعدوا يهتفوا «محمد مات خلف بنات محمد مات خلف بنات» عشان يشتمونا.
لا أعرف كيف يجيد الإسرائيليون اللغة العربية إلى درجة اختيار هتافات بها سجع، ولكن القصة لحظتها بدت لي درامية عن هزيمة وشماتة.
يقفز سؤال إلى ذهني فأقف بسرعة وأنا أرفع يدي تجاه المدرس وجسدي كله يميل على الدكة، هاتفاً: يا أستاذ، يا أستاذ.
لا أنتظر منه رداً، كأي تلميذ نموذجي في الإعدادي وأسأله مباشرة:
- فين الشتيمة؟
- ما يبني قعدوا يقولوا عليه صلوات الله عليه وسلم مات وخلف بنات.
- مات وعنده بنات. فين الشتيمة.
كل الناس تموت والكثير منهم ينجب البنات، لكن المدرس بدا ضجراً من عدم فهمي للاستهزاء الواضح في الهتافات.
كعادتي لم أشترك في جدل حول ما لا أفهمه؛ أملاً في أنني يوماً ما سأكبر وأفهم فين الشتيمة».
وما لم يقله هذا الكاتب والصحافي خفيف الظل ذو السؤال الذكي في صدر أيامه، أنه لما كبر فهم أين كانت الشتيمة في ذلك الهتاف.
فهم أنها في أن تكوني أنثى، وأن تكون أباً لبنات لا لبنين.
إن هتاف «محمد مات... خلف بنات» الذي لفّقه الإسلاميون على لسان الجيش الإسرائيلي والذين لا يفتأون عن تكراره إلى يومنا هذا، يسيء إليهم إساءة كبرى؛ لأنه يشير إلى ضعة مكانة البنات والمرأة عموماً عندهم.
من تأمل في كتابات الإسلاميين، علمني هذا التأمل - وهذا بعض مزاياه - ألا أطمئن لصحة روايات ينفرد الإسلاميون بها. فرواياتهم عندي متهمة حتى تثبت صحتها بدلائل وقرائن نطاقُها بعيد كل البعد عن مكامن أهوائهم وأحابيل أكاذيبهم. وللحديث بقية.