مدينة مصرية عتيقة تطل على ساحل البحر الأحمر، تتميز بزخم تراثي نادر، وتنوع بيئي، يجتذب الكتاب ومحبي الفنون التراثية، إنها القُصير التي تعد أحد أقدم موانئ مصر، حيث أبحرت من هذه المنطقة السفن التي أعدتها الملكة حتشبسوت للقيام برحلتها إلى بلاد بونت، ورغم تاريخها الطويل الممتد عبر العصور الفرعونية والرومانية والإسلامية ما يضعها بين صفوف مدن التراث العالمية، فإنه لا يزال إلى الآن توثيق هذا التاريخ رهينة جهود تطوعية من جانب أبنائها انطلاقاً من حرصهم الشخصي على بقائها حية في الذاكرة، ومن أحدث هذه الجهود الأعمال البحثية التي قام بها مُعلم اللغة الفرنسية والباحث في التاريخ طه حسين الجوهري.
يوثق الجوهري تراث القصير ويقدم للقارئ «بانوراما اجتماعية حياتية» عبر مجموعة من الكتب السابقة التي تضمنت تأريخاً علمياً وشهادات حية لأبناء مسقط رأسه إضافة إلى صور وخطابات ورسوم توضيحية نادرة حصل عليها من أجداده وجمعها من السكان، ويأتي كتابه الجديد «حول تاريخ مدينة القصير» والذي سيتم طرحه في معرض القاهرة الدولي للكتاب المزمع إقامته الشهر المقبل استكمالاً للسرد الشيق والحكايات المدهشة عن مدينته، مستغرقاً هذه المرة في عادات وتقاليد السكان، وطقوسهم في الأعياد والمناسبات المختلفة، إضافة إلى تراثهم الغذائي ومورثاتهم الفنية والثقافية.
نعيش من خلال الصفحات الأولى للكتاب مع المؤلف في طفولته وصباه بين البحر والجبل ورائحة خام الفوسفات، حيث وُلد الكاتب في منجم رقم 22، وهو أحد أهم مناجم استخراج الفوسفات الذي اهتم به المستثمرون الإيطاليون منذ عام 1910 إلى حد أنهم أقاموا معه مستعمرة كاملة في القصير لا تزال معالمها باقية إلى اليوم.
يقول الجوهري لـ«الشرق الأوسط»: «تُعد القُصير من المدن ذات الطابع الفريد؛ فهي تجمع بين التراث والحداثة من ناحية المباني والمنشآت الدينية، وتتميز بتنوع المطاعم والمقاهي والفنادق الفاخرة والبيئية البسيطة؛ فزيارتها تمنح السائح أحاسيس متنوعة ما بين الحنين والسعادة والصفاء الذهني، لأن المرء يجد نفسه محاطاً بالتاريخ والتراث جنباً إلى جنب الجبال والبحر».
ويُعد الجزء الذي شرح فيه النمط المعماري للمدينة وشكل بيوتها العتيقة من أكثر أجزاء الكتاب متعة وأهمية، فمن خلال صفحاته نتجول داخل الحي القديم بالمدينة بحاراته الثلاث (الفوقانية – والوسطانية – والتحتانية)، ونعيش في البيت القُصيرى في هذه الأحياء ونستكشف روعة مفرداته المعمارية وتقسيماتها ومسمياتها، ومن ثَمّ نشاهد النمط المعماري الأوروبي في مناطق أخرى بها، وكان قد تم تدشينه مع بدء عمل الشركة الإيطالية.
عبق التاريخ يفوح من بين أركان الأسواق التجارية وورش الحرف والصناعات القديمة التي كانت منتشرة في المدينة ولا يزال بعضها موجوداً، بينما اندثر بعضها الآخر. ويعلق طه الجوهري حول ذلك قائلاً: «مَن يزور القُصير يجد نفسه شغوفاً بزيارة أسواقها التي تعجّ بحركة البيع والشراء، كما تستهويه مشاهدة أهل المدينة يبدعون داخلها الصناعات اليدوية المحلية، وفي مقدمتها فنون التريكو، حيث يلحظ زائر المدينة الكثير من السيدات والفتيات وهنّ يجلسن أمام بيوتهنّ أو على شاطئ البحر وهنّ منشغلات بإبداع قطع الملابس والمفارش والحقائب من التريكو، وتتميز بألوانٍ بعضها زاهٍ مثل البرتقالي المستلهَم من لون الشمس والبعض الآخر من اللون الأزرق حيث البحر الممتد أمامهن، وتفسر حكاياتُ الجدات التي تم تناقلها السرَّ وراء هذا الشغف، وهو أنه عند إنشاء شركة الفوسفات أقامت الراهبات الإيطاليات مشغلاً للمصنوعات اليدوية، وقمن بتعليمها للفتيات المصريات إلى جانب سائر أعمال الإبرة والتفصيل والحياكة».
ولا يمكن لمن قرر تناول الطعام في القصير أن يفوته -حسب الجوهري- في كتابه الجديد طعم لحم الضأن أو الماعز المشويّ على أحجار البازلت، أو الصيادية والسمك المملح وأنواع الخبز المحلي ومنها «الجابوري»، وكذلك مشروب «الجبنة» الذي يكاد يكون «مشروبهم الرسمي»، وهو عبارة عن بُن مخلوط بالحبّهان وبعض الأعشاب. ويعيش القارئ بين صفحات الكتاب مع ذكريات لا يطويها النسيان لا سيما اللحظات الدافئة التي كانت تجمع أهل البيت في أثناء تناول «السرنباك»، وهو لحم بحري يُستخرج من صدف البحر وكان حتى وقت قريب يمثل الوجبة المفضلة للأهالي لمذاقه الطيب وقيمته الغذائية المرتفعة، ويقدَّم مملحاً ومجففاً، إلا أن حركة بيعه تراجعت أخيراً بسبب تجريم جهاز شؤون البيئة المصري عملية جمع المحار.
وحين يصل القارئ إلى الفصل الأخير يتأكد داخله الإحساس أن بين يديه كتاباً يُعد إضافة إلى المكتبة التراثية المصرية لتناوله بعض ملامح كنوز التراث اللامادي ومن ذلك الاحتفالات التي تتميز بها المدينة منذ فترات تاريخية بعيدة، وأبرزها عيد النصف من شعبان حيث كان يحتفل أهالي القُصير بوصول كسوة الكعبة التي كانت تخرج من مصر في موكب مهيب فيقوم الأهالي بوضع الهوادج الملونة على ظهور الجمال بألوانها الزاهية، وتطوف المدينة ويخرج وراءها الأهالي بالطبل والزمر في موكب مهيب.
كما يتناول الكتاب بعض العادات والتقاليد الغريبة التي يشتهر بها السكان والتي لا تزال جميعها حاضرة ويحتفظون بها إلى الآن.
، ومنها «التربلة» وهي أن يقوم العريس وهو يرتدي جلبابه الأبيض في ليلة عرسه بالمرور بين المدعوين وفي يده كرباج أو سوط، ويبدأ أصدقاؤه والصبية بالترحيب به ثم الاصطفاف أمامه، ويقف أحدهم على بُعد مترين، وهو رافع ذراعيه لأعلى ويبارك العريس بصوت مسموع، وعليه أن يقف ويضربه بالسوط، في المنطقة الوسطى بين الصدر والبطن في جانبه، ويهلل الحاضرون لهذا الفتى على التحية التي تدل على الصبر والجلد والفروسية، ويعد ذلك دليلاً على قوته، وكلما كان الصديق أقرب تحمّل من الكرباج الأكثر! كما أنه عند الإقدام على الزواج لا يرى الزوج زوجته لمدة شهر قبل الزفاف، ويتم وضع إشارة بيضاء فوق المنزل كإشارة إلى دعوة الجميع لحفل الزفاف، كما أنه حتى الآن لا يفضل السكان الزواج خلال شهري محرم وصفر.
وذهب الكاتب لاستعراض أدق التفاصيل كذلك عن حياة الصيادين والحرف والفنون التي ارتبطت بالصيد والبحر منذ القدم، وفي مقدمتها السمسمية ويتحدث عن سكان المدينة من القبائل المختلفة سواء العبابدة أو القبائل العربية أو العائلات التركية، معتمداً على وثائق محكمة القُصير، ودفتر «تعداد النفوس».