قصاصات الحياة وأحلامها فوق ماكينة خياطة

الإيطالية بيانكا بيتسورنو استلهمتها من قصص جدتها عن نساء عرفتهن

بيانكا بيتسورنو
بيانكا بيتسورنو
TT

قصاصات الحياة وأحلامها فوق ماكينة خياطة

بيانكا بيتسورنو
بيانكا بيتسورنو

تمزج الكاتبة الإيطالية بيانكا بيتسورنو، في روايتها «حُلم ماكينة الخياطة» التي صدرت حديثاً ترجمتها العربية عن دار المتوسط - إيطاليا، ما بين فِعل «حياكة» الثياب، وبين رتق أجزاء الحكايا المُبعثرة، فيبدو تتبع حكاية بطلة الرواية «الخيّاطة المُتواضعة» أقرب لجمع قصاصات القماش التي كانت تدخرها، منذ كانت في السابعة من عمرها، إلى أن تصير جدة تُعلِّم أحفادها تثبيت الأزرار، وتوشيّة حواف القماش بالغُرز الرقيقة.
تقع الرواية في 255 صفحة، وتدور أحداثها في مدينة صغيرة جنوب إيطاليا، وترجمتها عن الإيطالية وفاء عبد الرؤوف البيه، وتستهلها الكاتبة، مشيرة إلى أن الحكايات التي وردت في الرواية استلهمتها من قصص جدتها عن نساء عرفتهن بالفعل، وضمنهن الخياطة بطلة الرواية، مع مسحة من الخيال وبعض الرتوش تساعد في نمو الشخوص والأحداث، خاصة أنها واكبت فترة عصيبة ما بين الحربين العالميتين، ضرب فيها وباء الكوليرا المدينة، وكانت شخصية الخياطة المتواضعة العاملة بأجر يومي شائعة الحضور في معظم المنازل البرجوازية، ومن بين مهامها إعادة تدوير الثياب الموجودة إلى هيئات وتصميمات أخرى.
لعبة القُصاصات
تحكي البطلة عن الخياطة في إطار حديثها عن علاقتها الاستثنائية بجدتها على هذا النحو: «كُنت في السابعة عندما بدأت جدتي تعهد لي بأبسط لمسات التشطيب على قطع الثياب التي تخيطها في المنزل لزبوناتها»، «بدأت جدتي مُبكراً للغاية في وضع الإبرة والخيط في يدي، وقُصاصات صغيرة من النسيج المُتبقي من عملها. وكمُعلمة ماهرة، كانت تُقدم لي ذلك كلعبة».
تتوطد العلاقة بينهما بشكل مصيري، فهما فقط من بقيتا على قيد الحياة من بين أفراد العائلة بعد أن أطاح بهم وباء الكوليرا. تتربى البطلة في بيت الجدة وتكتسب منها خبرة التعامل مع الحياة، وتتعلم مُبكراً معنى كلمة «الاستقلال» وكيفية الاعتماد على النفس وتوقير العمل، وغيرها من القيم التي تجعلها على مدار عمرها تتشبث بحرفة الخياطة مهما قلّ أجرها، وشحّ زبائنها.
تدخل البطلة مع جدتها بيوت العديد من العائلات، فتستمع مُبكراً لنمائم وثرثرة المدينة الصغيرة، وتتعرف على طبقاتها، ما بين سيدات راقيّات، وبرجوازيات، وجارات الأزقّة الفقيرات، والخيّاطات المتواضعات اللاتي يعملن بأجر يومي كجدتها، فتدرك مرارة الهوّة الطبقية الشاسعة بين الفقراء والأغنياء، والتي لا يسلم منها الحب الذي يُفرّق أكثر ما يجمع بين القلوب.

قلب منهك
عاشت الطفلة البطلة أسيرة خفة يد الجدة، بينما السحر كان يتضاعف عندما تستضيفهما إحدى الأسر الميسورة للعمل في غرفة الخياطة الخاصة ببيتهم الكبير، حيث كان من عادة المنازل الثريّة في ذلك الوقت أن يكون لديها غرفة مُخصصة للخياطة، بها طاولة كبيرة للقص، وأخرى للكيّ. تتذكر البطلة: «وغالباً ما كانت توجد أيضاً، وهذه عجيبة العجائب، ماكينة خياطة. كانت جدتي تعرف كيف تستخدمها، ولا أدري أين تعلمت ذلك، وكنت أراقبها مسحورة، بينما تدفع هي الدوَّاسة جيئة وذهاباً وبإيقاع ثابت».
يظل هذا الطيف يُلازم البطلة، وهي تتذكر كيف أن الحصول على ماكينة تخصهم في بيتهم الفقير أمر مستحيل، فلا هما يملكان ثمنها، ولا حتى مكاناً يتسع لها. وإلى جانب مهارات الخياطة، تعلّمت الفتاة الكثير من دروس التشبث بالحياة، أولها الوعي بالعقد والفواصل السميكة بين عالم الأغنياء والفقراء، وكيفية الادخار للأوقات العجاف، فكم من مرة كادت تقترب الجدة من ثمن شراء ماكينة خياطة، لكنها كانت تؤثر ادخار ثمنها لوقت حالك كالذي يحدث مراراً مع عدم طرق زبائن جُدد على بابهما، علمتها الجدة أيضاً أن عادة ما يموت صاحب الحرفة وهو يؤديها، هذا الدرس تحديداً كان أكثر الدروس قسوة ومفصلية في حياة البطلة، التي ماتت جدتها تحت وطأة «قلب منهك تماماً» وهي تُطيل لها إحدى أثوابها الشتوية. كان على البطلة أن تتخذ أولى قراراتها مُنفردة دون سند الجدة، وهو قرار دفنها بشكل كريم، فقررت إنفاق مدخراتهما القليلة على جنازة ودفن جدتها: «لأنني لم أرد أن أضع الجدة في جبانة الفقراء كبقيّة أفراد الأسرة».
جرّد فقد الجدة المفاجئ البطلة من كل شيء، إلا من حرفتها، لتبدأ يومياتها في الالتحام بأقدار وتحديّات تفوق عمرها، لا سيما مع قرارها الاحتفاظ بحرفتها وعدم استسهال العمل كخادمة بدوام كامل لدى إحدى العائلات رغم ما كان سيوفره ذلك من نفقات مأكل وإقامة، متابعة «طموحها في الاستقلال»، فتعلمت تدبر أشد صنوف الاقتصاد صرامة. وخلال رحلتها تتعرض لعديد من المواقف السارة والمؤلمة، فتنتشلها من حافة اليأس ماركيزة شابة مثقفة، من زبائن جدتها، تدعوها للعمل لديها وتفتح أمامها آفاق التعلّم والقراءة، وفي بيتها اختبرت أولى تجليّات قصص الحُب، وإحباطها المُبكر.
تساند البطلة من على شاكلتها كما أوصتها الجدة، تدخل بيوت الأغنياء لمهمات الخياطة، وتدرك هشاشة حياتهم خلف الأبواب المغلقة. لكن الخوف ظل يطارد روحها القلقة، فستدعى للشهادة في مقتل سيدة أميركية وقعت في غرام المدينة الإيطالية، ثم بعد ذلك تتهمها «بارونة» ثرية بالسرقة، ورغم براءتها، تصير مُتهمة ومحل تحقيق، في مجتمع صغير ومُغلق لكنه قاسٍ، من السهل فيه الضغط على الفقيرات وابتزازهن، لكن هذه العثرات تزيدها صلابة «لم أعد خائفة، في داخلي هدوء عظيم، نوع من الاستسلام للقدر. نحن أوراق جافة في مهب الريح».

مرايا متجاورة
من السمات اللافتة في الرواية، تركت المؤلفة البطلة من دون اسم، لتعطي صدارة لأهمية حرفة الحياكة وقيمتها ومعناها في الحياة، كغطاء للجسد والروح معاً، وشكل من أشكال الزينة والترف. كما لجأت إلى ما يمكن تسميته سرد «المرايا المتجاورة»، فكل مرآة تتراءى كخيط لحدث ما، سرعان ما يلضم بسلاسة وعفوية في خيط مرآة أخرى، بينما تُشبَّع لغة السرد بمفردات الخياطة وأنواع الأقمشة، بصورة تصنع ألفة بين القارئ وعالم تلك الحرفة، فعلى مدار الرواية تتكرر في نسق المرايا المتجاورة مفردات مثل: «الجوبير» و«الموسلين» و«الباتيستا»، و«الكتان»، «السِّجاف»، وهنا أيضاً صدى للبون الطبقي الشاسع بين فساتين بنات «السادة» وملابس بنات «الفقراء»، المنزوعة الزخارف والحلي.
وفي محاولة لجعل القارئ شريكاً ضمنياً في الحكاية، تلجأ الكاتبة إلى تطعيم السرد بتساؤلات مفاجئة له على لسان البطلة، مما يعكس الكثير من وحدتها وانتظارها مشاركة أحدهم انكساراتها المُتكررة، مثلما تقول: «تريد أيها القارئ، أن تعرف ما حدث لي بعد الوقائع التي قرأتها للتو؟»، وهو أسلوب سردي شيق يجعل القارئ متحفزاً لتتبع مسارات السرد السابق واللاحق على مدار الرواية، إلى أن تمتلك البطلة ماكينة الخياطة أخيراً، في وقت لم تعد فيه مجرد خيّاطة مُتواضعة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».