ثورة الفرنسيات المجهولات الممسكات بالفرشاة

معرض يعيد الاعتبار لرسامات رائدات تحدين سجن الزواج والمطبخ

آديل رومانيه ترسم نفسها
آديل رومانيه ترسم نفسها
TT

ثورة الفرنسيات المجهولات الممسكات بالفرشاة

آديل رومانيه ترسم نفسها
آديل رومانيه ترسم نفسها

قد يكون اسمها أديلاييد أو إليزابيت أو جولي ماري دنيز، أو غير ذلك من عشرات الأسماء لنساء مارسن مهنة الرسم في فرنسا الملكية دون أن تهتم بأعمالهن صالات العرض والمتاحف. لم تكن المرأة قد أخذت مكانها مثل اليوم. وكانت هناك نظرة سائدة بأن الرسم والنحت مهنة الرجال. أما الأنثى فقد خُلقت لتكون ملهمة ونموذجاً للفنانين، يرسمونها ولا ترسمهم.
هل كان على مؤرخي الفن أن ينتظروا الألفية الثالثة لكي يلتفتوا إلى ما أنجزته أولئك الموهوبات اللواتي جرى غمط حقوقهن والتعتيم عليهن بل ونبذهن؟ في متحف مدينة لوكسمبورغ، شرق فرنسا، معرض جميل يجمع نحواً من 70 عملاً من أعمال أولئك الرسامات شبه المجهولات. وهو معرض لا يمكن زيارته إلا عبر الشاشة، شأنه شأن بقية الأحداث الفنية في زمن التباعد، على أمل أن يفتح أبوابه للجمهور مع منتصف الشهر المقبل.
تعود اللوحات والمنحوتات المعروضة إلى سنوات تمتد ما بين 1780 و1830. وهو يروي حكاية ظاهرة فنية ولدت مع تمخضات الثورة الفرنسية، لكنها بقيت مقموعة ومهمشة. وتتمثل تلك الظاهرة في عدد من الرسامات غادرن البيوت والتحقن بالورشات الفنية وتلقين تدريبهن على أيدي فنانين معروفين، لكنهن واجهن رفضاً من المجتمع التقليدي الزراعي الذي كان يؤمن بأن المطبخ هو الميدان المثالي لإبداعات النساء.
أسست الرسامات اللواتي تعلمن الفن بشكل منهجي تجمعاً خاصاً بهن. وكانت الأكاديمية الملكية للرسم قد بدأت بقبول بعض الطالبات اعتباراً من ربيع 1783. لكن تم تحديد عددهن بأربع. وأشهر من درست في تلك الأكاديمية إليزابيت لويز لوبران. وهي قد اضطرت إلى مغادرة فرنسا، حيث لقيت تقبلاً ونجاحاً في دول أوروبية أخرى، مثل إيطاليا وروسيا. وفي المعرض لوحة رسمتها الفنانة من نوع «الأوتوبورتريه»، أي رسم الذات عبر المرآة. وهنا لا بد من ملاحظة أن معظم الرسامات نفّذن تلك الممارسة، فهل أردن التشبه بمعلميهن الرجال، أم هي محاولة لإثبات الذات وتخليد الصورة؟
نقرأ في تقديم المعرض أن الرسامة أديلاييد لابي غيار تدربت على الرسم بالألوان الزيتية على يد الفنان فرنسوا أندريه فنسان، وكان من أصدقاء طفولتها وهو من شجّعها على الوقوف أمام زملائه ليرسموها. وهي قد مضت في هوايتها، لكن رسامات أخريات، من القرن الثامن عشر، انتهين نهاية مأساوية، كان أبسطها الزواج وترك الفرشاة والألوان، وأقساها الهجرة من فرنسا بحثاً عن تحقيق الذات خارجها. وكان مما كتبته الرسامة روزالي فيلول دوبين في مذكراتها، أنها كانت تفكر بمغادرة وطنها لتبتعد عن الفظاعات. لكن مصيرها كان اعتزال الرسم قبل أن تكمل ربيعها الثالث والعشرين.
مع بزوغ القرن التاسع عشر، برزت ظاهرة جديدة هي ظهور رسامات لا ينتمين للعائلات الفنية المعروفة. ففي السابق، كانت الرسامة ابنة لرسام أو شقيقة لنحات. كان على هؤلاء مهمة صعبة بشكل مضاعف لإقناع الوسط الفني بمواهبهن دون التعكز على شهرة زوج أو أخ. ويحسب لأولئك «المستقلات» أنهن لم يتدربن على يد رجل، بل واصلن العمل حتى النهاية معتمدات على ذواتهن. وبينهن من تدربت على يد رسامة سبقتها في هذا المجال، مثل ماري غيلمين بونوا التي كانت تلميذة لإليزابيت لوبران.
هذه الأسماء للرسامات اللواتي عملن بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ليست أكثر الأسماء التي يتم الاستشهاد بها في كتب تاريخ الفن. إنها أقل شهرة من أقرانهن الرجال لدى عامة الناس. ومع ذلك، فإنهن ينتمين إلى فريق الفنانين العديدين الذين ساهموا في تألق الفن التشكيلي الفرنسي. ولم يكن نادراً أن تخترق إحداهن «ورشات السادة الرجال» وصالات المعارض أو أن تحصل على تكليف من الدولة لإنجاز عمل ما. ورغم هذا واصل النقاد تجاهلهن. والحجة هي: كيف سيتمكن من إيجاد الوقت الكافي ليكنّ في الوقت ذاته زوجات حريصات، وأمهات مضحيات، وخادمات يقظات في بيوتهم، ثم يرسمن؟ إن من المستحيل القيام بذلك بشكل جيد؟ هذا ما كتبه آبي دو فونتيني في عام 1785. لكن رغم الانتقادات، حاولت الرسامات إيجاد موضع قدم لهن مساوٍ لموقع زملائهن الذكور.
في سياق الاضطرابات السياسية الكبيرة، أي السنوات الأخيرة من الحكم الملكي وبدايات الثورة الفرنسية، تم ما يمكن وصفه بـ«تأنيث» الفنون الجميلة، أو بالأحرى تسليط ضوء مفاجئ على الرسامات. وهي كانت مجرد مرحلة قصيرة إذ سرعان ما تم نسيانهن فيما بعد. لذلك يأتي هذا المعرض بمثابة إعادة اعتبار لهن. وهو معرض وصفه النقاد بأنه «ثورة النساء اللواتي أمسكن الفرشاة». وهناك دراسة شاملة عن كل واحدة من صاحبات اللوحات السبعين المختارة للعرض، مع سيرة لها ولما صادفته من صعوبات في سبيل أن تصبح رسامة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)