معرض القاهرة للكتاب يختتم أنجح دوراته ويتخطى مليوني زائر

احتضن 600 ندوة و70 مليون كتاب و47 دولة مشاركة و850 دار نشر

أحد أجنحة المعرض
أحد أجنحة المعرض
TT

معرض القاهرة للكتاب يختتم أنجح دوراته ويتخطى مليوني زائر

أحد أجنحة المعرض
أحد أجنحة المعرض

أسدل الستار يوم الخميس الماضي على فعاليات الدورة الـ46 من معرض القاهرة للكتاب، التي شهدت إقبالا جماهيريا كبيرا لم يشهده تاريخ المعرض من قبل، ليصبح أكبر تظاهرة ثقافية، رغم الاضطرابات الأمنية، شهدتها مصر منذ أعوام، إذ ضمت 70 مليون كتاب و47 دولة مشاركة و850 دار نشر، وكذلك العاصفة الترابية التي غطت سماء القاهرة وعطلت مظاهر الحياة اليومية فيها، وكان من اللافت ارتداء زوار المعرض للكمامات أثناء زياراتهم للمعرض.
وفي تقليد سنوي، أعلن د. جابر عصفور، وزير الثقافة المصري، قائمة الفائزين بجائزة أفضل كتاب لعام 2014 في 10 فئات مختلفة تبلغ قيمة كل جائزة 10 آلاف جنيه مصري. وفاز بأفضل كتاب سياسي «البحث عن خلاص» لشريف يونس، وفاز كتاب «سقوط الآلهة.. قراءة في الوعي الجمالي عند سيد حجاب» لحميدة عبد الله بجائزة أفضل عمل في النقد الأدبي، وفازت رواية «الحريم» لحمدي الجزار بجائزة أفضل رواية، أما جائزة القصة القصيرة فمُنحت لمحمد عبد النبي عن مجموعته القصصية «كما يذهب السيل بقرية نائمة».
وفاز الروائي فؤاد حجازي بجائزة أفضل عمل للأطفال عن روايته «ابتسامات» وفاز كتاب «شفرة بصرية» للتشكيلي حمدي عبد الله بجائزة الأفضل في الفنون وفاز «اقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين» لعبد الخالق فاروق بأفضل كتاب في العلوم الاجتماعية. وحصد ديوان «أنت في القاهرة» لإبراهيم داود بجائزة شعر الفصحى. أما ديوان «جنب البيت» لرجب الصاوي ففاز بجائزة شعر العامية المصرية، بينما فاز بأفضل كتاب علمي «الفطريات والمسرطنات في الأغذية» لفهيم شلتوت، وفازت بجائزة أفضل ناشر دار «سما».
ورغم أن فعاليات المعرض امتدت 16 يوما، فإن عددا كبيرا من الناشرين طالب بمد فترة المعرض ليصبح بذلك أطول معارض الكتب في العالم. وقال د. أحمد مجاهد، رئيس الهيئة العامة للكتاب المنظمة للمعرض لـ«الشرق الأوسط»: «تعد هذه الدورة هي الأنجح منذ عدة سنوات. وقد رفضت الهيئة رفضت مد فترة المعرض، الذي كان من المفترض أن يعقد على مدار 7 أيام على الأكثر طبقا للمعارض الدولية، إلا أنها سوف تواصل نشاطها الثقافي بإطلاق عدة معارض للكتب في عدد من المحافظات المصرية على مدار الشهور الثلاثة المقبلة».
ويضيف: «المعرض حقق نجاحا غير متوقع، فقد تخطى زوار المعرض مليوني زائر، ونفدت جميع تذاكر الدخول قبل أيام من انتهاء المعرض، وحققت الهيئة العامة للكتاب فقط مبيعات تخطت المليون جنيه، حيث بلغت مبيعات العام الماضي 550 ألف جنيه».
تميزت الدورة الـ46 ببرنامج ثقافي دسم وصلت ندواته فقط إلى 600 ندوة، فضلا عن حفلات التوقيع، وبرزت فيها وجوه العديد من الأدباء، الذين انعزلوا فترة عن الوسط الثقافي. وشارك في فعاليات هذه الدورة مجموعة من المثقفين العرب الذين غابوا أيضا عن مصر، وعلى رأسهم الشاعر السوري أدونيس، والباحث التونسي عبد المجيد الشرفي، والمفكر الإسلامي اللبناني رضوان السيد، الذي تحدث عن محمد عبده والتجديد الثقافي العربي الإسلامي، كما شارك المفكر اللبناني د. علي حرب في ندوات المعرض، ولكنه أبدى اعتراضه على التعويل على مسألة تجديد الخطاب الديني والاستناد إلى القضايا الفكرية التي سبق أن طرحت قبل 100 عام. وكانت شخصية المعرض هذا العام محمد عبده، وتناولت عشرات الندوات فكره ومنهجه الوسطي إلا أن المتحدثين فيها لم يتطرقوا إلى إسهاماته السياسية والاجتماعية وكيفية الاستفادة منها في وقتنا الحالي.
وكان من بين كبار الأدباء الذين شاركوا بالمعرض عبده جبير، وإبراهيم عبد المجيد، وأشرف الخمايسي، والكتاب الحائزون على جائزة البوكر في الرواية العربية، ومنهم الكاتب الكويتي سعود السنعوسي، والروائي العراقي أحمد سعداوي، والروائي المصري يوسف زيدان، كما شارك الروائي السوداني حمور زيادة، والكاتبة التونسية رجاء بن سلامة، ومن المملكة السعودية د. معجب العدواني، والشاعر السعودي أحمد قران الزهراني، والشاعر أحمد بن عبد الله التيهاني، ومن فرنسا الكاتب والصحافي الفرنسي آلان غريش الذي ينحدر من أصول يهودية مصرية، وهو رئيس التحرير السابق لجريدة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية.
تطرقت الندوات لمختلف جوانب الثقافة والفكر والأدب والترجمة ودورها في إثراء الثقافات ومنها ندوة «الترجمة عبر العصور»، التي تطرقت إلى اهتمام الشعوب العربية بترجمة الروايات الغربية على حساب جميع مناحي المعرفة. في حين نقلت الندوات الخاصة بالأدب العربي مخاوف تأثير العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر» و«فيسبوك» على فن القص والسرد، وبرزت مخاوف المثقفين على الرواية العربية من كتابات السيرة الذاتية. وناقشت كثير من الندوات الفكر السلفي والفكر الجهادي في محاولة للتأصيل لفكر الجماعات المتطرفة، ومنها ندوة «المرجعيات الفكرية للجماعات الدينية» التي ناقشت كيف استغلت بعض الجماعات فكر ابن تيمية، وتعرضت الندوات لمخاطر أفكار سيد قطب وحسن البنا وتأثيرها في ظهور تنظيمات متطرفة مثل «داعش».
وأقيمت عدة ندوات تحتفي بتاريخ المملكة العربية السعودية كضيف شرف، كان من بينها الندوات التي ركزت على الإبداع السعودي: «قراءات في القصة والرواية السعودية»، تحدث فيها د. معجب العدواني الأستاذ بجامعة الملك سعود، ود. السيد محمد الديب أستاذ الأدب العربي والنقد بجامعة الأزهر، والقاصة السعودية ليلى بنت إبراهيم الأحيدب، وأدار الندوة الشاعر عيسى بن علي جرابا المدرس بالمعهد العلمي في صبيا، وتطرقت إلى تاريخ الرواية السعودية الذي بدأ منذ عام 1930 بصدور رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري، التي طُبعت بمطبعة الترقي السورية. كذلك خلصت ندوة «الرواية السعودية والتحديات التي تواجهها» إلى أن الرواية السعودية سحبت البساط من الشعر، وأصبحت تحتل مكانة مرموقة في الرواية العربية.
وأقيمت أيضا ندوة للتعريف بآثار المملكة والاكتشافات الأثرية فيها التي تروي تاريخ المدن العربية ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية.
وبدا النشاط الثقافي يسير في اتجاهين متوازيين، حيث اجتذبت الندوات الخاصة بتجديد الخطاب الديني كبار السن، بينما تكالبت جموع الشباب على حفلات التوقيع للكتاب الشباب والندوات الفنية التي حضرها نجوم السينما، وكان أبرزهم الفنان محمود حميدة والفنانة سميرة عبد العزيز.
واحتضن المعرض عددا من الأمسيات الشعرية شارك فيها أبرز الشعراء المصريين ومنهم: سيد حجاب، وجمال القصاص، وشريف الشافعي، وعدد من الشعراء من مختلف المحافظات. كما تضمنت الفعاليات إقامة معرض فني بعنوان «أياد مصرية»، الذي جسد الثورة المصرية بمشاركة مجموعة من الفنانين الشباب، وحفلا للموسيقى الكلاسيكية، وعروضا للأطفال.
بشكل عام، تميزت أجنحة المعرض بالعرض الجيد للكتب وإن كان من الملاحظ عدم التجديد في خريطة المعرض أو وضع خرائط واضحة للأجنحة. وكان أكبر الأجنحة الجناح السعودي «ضيف الشرف»، وحظي زواره بالحصول على كتاب «العلاقات السعودية المصرية ملوك ورؤساء»، أعدته الملحقية الثقافية السعودية بالقاهرة، الذي يرصد 100 عام من تاريخ البلدين، وضمت أروقته تعريفا بمختلف الجوانب الثقافية والتراثية والاجتماعية للمملكة، وأجنحة لأشهر الناشرين، ومنهم المتنبي، والمكتبة التراثية، وجرير، والعبيكان، التي أطلقت مشروع «إثراء»؛ أكبر مكتبة رقمية تفاعلية للمحتوى العربي.
وكان من الملاحظ التزايد الكبير في أعداد المؤلفين والأدباء الجدد من مختلف الدول العربية، والإقبال على أعمال الأديبات العربيات عامة والسعوديات خاصة من قبل المثقفين المصريين، ومن أبرز الأعمال التي لقيت رواجا أعمال الكاتبة الروائية سمر مقرن، ورواية «دحرجة الغبار» للروائية السعودية سلام عبد العزيز، وديوانا «في دهاليز الأرق» لسلوى أبو مدين، و«هموم وأحلام» لندى برنجي.
وتصدرت الروايات العربية المشهد في جميع أجنحة المعرض، أما الأجنحة التي لم تحتفِ بالروايات ولم تعلن عن تخفيضات، فكانت خاوية. لذا وجدت التخفيضات الهائلة طريقها إلى جناح الجامعة الأميركية بالقاهرة ودور النشر الأجنبية، خاصة على الروايات الأجنبية لكبار الكتاب مثل باولو كويلو وساراماجو.
وكان من اللافت ارتفاع أسعار الكتب عن العام الماضي، خاصة في الدور العربية التي لم تحقق أرباحا، كالدور المصرية، نتيجة تكاليف الشحن، إلا أن جمهور المعرض استفاد من التخفيضات الهائلة التي قدمتها وزارة الثقافة المصرية، والتي نافست بها باعة الكتب المستعملة التي كان يُنادى عليها «الكتاب بجنيه والرواية بجنيه». وعلى النقيض من العام الماضي، لم تحظَ كتب المنشقين عن جماعة الإخوان المسلمين بالشغف الذي لاقته العام الماضي، بل عزف عنها الجمهور في مقابل الإقبال الكبير على الكتب الخاصة بالتاريخ المصري، وخصوصا الحقبة الملكية والناصرية، إلى جانب كتب السير الذاتية للساسة والمفكرين، وتصدر المشهد كتب تحمل في عناوينها كلمة «داعش» في محاولة مكشوفة من دور النشر للكسب السريع، لكنها لم تلقَ رواجا.
ويظل معرض القاهرة للكتاب بوصلة للتعرف على ذائقة القارئ العربي والأجنبي لما يشهده من تنوع في جمهوره، كما يتضح لزائر المعرض التحولات الثقافية الناجمة عن المتغيرات السياسية والاقتصادية بالمنطقة، التي يمكنه رصدها في نوعية المطبوعات، والعناوين الصادرة حديثا، والتطور في صناعة الكتب وأغلفتها، والظواهر الثقافية المرتبطة بصناعة النشر، ومنها الأكثر مبيعا، والتزايد الملحوظ في دور النشر، وتعاملها مع الكتب كسلعة استهلاكية تعتمد على التسويق والدعاية بغض النظر عن قيمتها، وحفلات التوقيع وغيرها.
وكانت ظاهرة تزوير الكتب الأكثر إثارة للجدل والتساؤلات خلال أيام المعرض، تبعها قرار الهيئة العامة للكتاب بإغلاق ثلاث دور نشر نتيجة تلك الظاهرة التي استشرت في مصر بشراسة، والتي تضر ضررا بالغا بحقوق المؤلفين والناشرين وتدمر صناعة النشر.
ويُعد معرض القاهرة أيضا فرصة ذهبية لدور النشر لعقد الصفقات والاتفاق على مشروعات أدبية وتراجم، والتعاقد مع الأدباء والمؤلفين. وكانت إحدى ثمار معرض القاهرة للكتاب مشروع «كايروكولينج» لنشر ثقافة القراءة وتطبيق فكرة توصيل الكتب إلى المنازل بالمجان. ومن أهم الصفقات التي عُقدت في المعرض توقيع اتحاد الناشرين المصريين، ومؤسسة «إنتركونتننتال» الصينية، اتفاقية تعاون في مجال النشر الإلكتروني، بهدف دعم صناعة النشر الإلكتروني وإيصال الكتاب العربي لجميع القراء في العالم، حيث تقوم المؤسسة خلال عامين بتحويل ورفع 5 آلاف كتاب من دور النشر المصرية، على موقعها وتطبيقاتها وتسويقها في كل أنحاء العالم.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟