د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

روسيا وأميركا مجدداً!

حينما وصف الرئيس الأميركي بايدن الرئيس الروسي بوتين بأنه قاتل ويستحق العقاب، وأن ذلك سوف يحدث قريباً، وما على صاحب السؤال إلا أن ينتظر ويرى ما سيحدث، دقت ساعة الإعلام العالمي على استعادة نشيد الحرب الباردة وأوقاتها الصعبة. جماعة مراكز البحوث الأميركية كانت جاهزة باستعادة ذكريات طال البعد عنها، كانت العلاقات الدولية ساعتها معلومة ومنضبطة، ولا يصيبها ضباب أحاديث العولمة.
الغضب كان سائداً في موسكو، فليس هكذا في ظنهم تُخاطِب القوى العظمى النووية بعضها بعضاً، خاصة أن القيادة الروسية أنكرت بشدة ما يكال لها من اتهامات قتل جواسيس لها في الحدائق البريطانية، أو أنها قامت بالتلاعب بنتائج الانتخابات الأميركية ليس مرة واحدة وإنما مرتان. المسيرة تشبه الحرب الباردة في أمر واحد، وهو أن فيها استخبارات وجاسوسية، والأعمال التي لطالما ألهمت عشرات الأفلام في هوليوود وخارجها بالكثير من التوجس والإثارة. المسألة كما هي العادة بنت عصرها، وفي العالم المعاصر فإن الأمور خرجت من حالة أسلحة التدمير الشامل النووية والكيماوية والبيولوجية إلى عالم آخر مختلف هو العالم السيبراني. الحرب هكذا جديدة لم تستقر على قاعدة بعد، وليس لها فصل وباب في كتب القانون الدولي، ولا في سابق المعاهدات والمفاوضات الدولية. ولكن الحديث عن الحرب الباردة سهل، ومراجعه متوافرة، والإثارة غالباً تفيد الإعلام وبايدن وبوتين أيضاً؛ فالموضوع برمته له أبعاد داخلية في كلا البلدين: روسيا والولايات المتحدة.
الأولى مفهومة لأن بوتين لديه الكثير من المشاكل الداخلية، بعضها ظاهر حول قضية نافالني الذي أصيب من قبل بحقنة مسمومة، ونقل في ألمانيا ليتخلص من السم، ولكنه يعود لكي يقود المعارضة من سجنه بعد أسابيع من المظاهرات. القصة تعود بنا إلى يوم عاد فيه لينين إلى روسيا لكي يقود ثورة شيوعية؛ وكل ما حدث أن الزعيم الجديد يقود ثورة ليبرالية هذه المرة وسط تصفيق حاد من الدول الغربية. في الولايات المتحدة، فإن بايدن يواجه شبح «عودة ترمب» الذي عاد لكي يشن حملة عن ضعف بايدن، وعدم قدرته على صد هجوم المهاجرين إلى الولايات المتحدة أو الانسحاب من أفغانستان أو مواجهة إيران؛ والأخطر أنه يعد العدة للترشح في انتخابات 2024 الرئاسية المقبلة. في الطريق إلى ذلك، فإن ترمب لم يعد لبناء حزب جمهوري جديد؛ فقد التف الحزب حوله، وهو الآن الذي يرسم خطط الحزب لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس 2022. بايدن على الجانب الآخر يشعر أنه يسابق الوقت حتى يثبت نفسه سياسياً داخل وخارج الولايات المتحدة، وهو لا يريد أن يثبت أن ترمب لا يصلح لقيادة دولة فقط، ولكنه يريد أن يثبت طريق الديمقراطيين من خلال المعالجة الحكيمة لأزمة الفيروس التاجي بحيث تقترب أميركا من حياة مقبولة الاعتياد في منتصف العام، وتصل إلى الحياة العادية قبل نهايته. وفي الخارج، فإنه يريد معادلة عاقلة من خلال تقييد الدور الروسي، والمنافسة مع الدور الصيني، والتعامل «العاقل» مع إيران بالعودة إلى اتفاق نووي يمكن التعايش معه. ووسط هذه المعادلة، فإن بايدن على استعداد لاستخدام كل الأسلحة من أجل الحفاظ على شعبيته الداخلية.
الفرصة التي حاول بايدن انتهازها هي أن أجهزة المخابرات الأميركية أصدرت الأسبوع الماضي تقريراً رفعت عنه السرية لتقييم المحاولات الأجنبية للتأثير على انتخابات 2020 ويسلط الضوء على كيفية اعتبار كبار خصوم أميركا مثل روسيا وإيران للانتخابات الأميركية فرصاً رئيسية لدفع أجنداتهم. تنص وثيقة مجلس الاستخبارات الوطنية المكونة من 15 صفحة، وهي نسخة عامة لتقرير سري، على أنه لم تحاول أي دولة حتى تغيير بيانات تسجيل الناخبين، أو الأصوات نفسها، أو الإبلاغ عن تلك الأصوات. بعبارة أخرى، لم يتم التلاعب بالعملية الانتخابية نفسها. ومع ذلك، فإنه يعرض بالتفصيل الجهود التي تبذلها العديد من البلدان والجهات الفاعلة السياسية لتقويض الثقة في التصويت وزرع الفتنة الاجتماعية باستخدام أساليب أكثر دقة مثل نشر المعلومات المضللة والتلاعب بتوجهات الناخبين. وفي هذا التقرير يقيّم مسؤولو المخابرات الأميركية «بثقة عالية»، أن الرئيس فلاديمير بوتين سمح بـ«عمليات التأثير» - وهي تحركات لجعل الجمهور المستهدف يتصرف بطريقة معينة - مصممة لإلحاق الضرر بفرص المرشح الديمقراطي آنذاك جو بايدن في الفوز وتعزيز الرئيس دونالد ترمب حينها. ووفقاً للتقرير، فعل الوكلاء المرتبطون بالكرملين ذلك من خلال دفع «مزاعم مضللة أو لا أساس لها ضد الرئيس بايدن» إلى المؤسسات الإعلامية الأميركية والمسؤولين الأميركيين، وحتى الأشخاص المقربون من ترمب. كان أحد هذه المزاعم هو وجود «علاقات فاسدة بين الرئيس بايدن وعائلته ومسؤولين أميركيين آخرين وأوكرانيا». يتبع ذلك إلى حد كبير نظرية المؤامرة، التي دفعها ترمب ومحاميه الشخصي رودي جولياني، بأن بايدن كنائب للرئيس قد طرد المدعي العام الأوكراني من أجل إلغاء تحقيق في شركة Burisma، وهي شركة أوكرانية خدم في مجلس إدارتها نجل بايدن هانتر.
التقرير بهذا الشكل ليس جديداً بالمرة، بل إنه أقل خطورة وجزماً من «تقرير موللر» الذي كان جازماً أكثر في صدد التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016؛ وما لم يجزم فيه أو يصدر فيها حكماً نهائياً، فهي وجود علاقة مباشرة ما بين العاملين في حملة ترمب مع المخابرات الروسية. ولكن مع ذلك، فإن بايدن تعامل مع التقرير كما لو أنه يكشف أموراً جديدة، وأن هذه تؤهله لاتهام بوتين من جديد، وفوق ذلك التهديد بعقابه. وهكذا بدأت السلسلة من الكلمات والتهديد بين بايدن وبوتين بينما كلاهما يعلم أنه بغض النظر عن عمليات التدخل السيبرانية، فإن المنافسة بين الدولتين، والكلمات اللاسعة بينهما، فإنه يوجد أرضية مشتركة لا يمكن تجاهلها. والملاحظ أنه وسط الكلمات الساخنة، فإن قضية أوكرانيا لم ترد إلا في سياق اتهامات ترمب تجاه نجل بايدن، أما الدولة ذاتها في قلب أوروبا، فإن لا شيء يرد عليها، وهي القضية التي تقع في قلب الخط الفاصل لما يسمى الحرب الباردة. كلتا الدولتين تعلم جيداً أن كلتيهما تحتاج إلى الأخرى فيما يخص أفغانستان وأزمتها المستحكمة، فلا روسيا ولا أميركا تريدان أن تعود «طالبان» إلى الحكم مرة أخرى، وكلتاهما تعلم أن التعاون بينهما، والتفاهمات القائمة تدفعهما للتعاون فيما يخص سوريا، فلا الولايات المتحدة تريد البقاء، ولا روسيا تريد الذهاب، وإسرائيل بينها تختار أهدافها الإيرانية، بينما كلتاهما تريد العودة إلى الاتفاق النووي الذي شاركتا في التوصل إليه، والآن تريدان عودته. وكلتاهما تريد التجديد لاتفاقية خفض الأسلحة النووية؛ كما أن واشنطن تعلم أن خصمها الأساسي في العلاقات الدولية هو الصين، وموسكو التي تعودت على أن تكون واشنطن هي خصمها الرئيسي وراء المحيط، فإنها الآن ترى الصين الدولة العظمى الجديدة واقعة على حدودها المباشرة. بالمعايير «الجيو سياسية»، فإن الدولتين، روسيا وأميركا لا تملكان ترف حرب باردة أخرى في وجود الصين.