برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية

فرص مبعوث الأمم المتحدة في إنجاح الحوار الليبي تبدو ضيقة

برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية
TT

برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية

برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية

انطلق قطار الحوار الليبي الذي يشرف عليه برناردينو ليون، ممثل ورئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، واجتاز محطتين خلال نحو خمسة أشهر، لكن ما زالت تقف أمامه عقبات كثيرة. ومنذ بدأ عمله في هذا البلد المضطرب في أغسطس (آب) الماضي، بدا أن ليون يتمتع بشخصية رجل «مرن وصلب» في آنٍ واحد. مرن في الاستماع والنقاش، وصلب في تنفيذ كل ما يجري الاتفاق عليه. وجرى تعيين الرجل لمهمة رأى المراقبون، من البداية، أنها في غاية الصعوبة في هذه الدولة التي تعاني من الفوضى والاقتتال منذ مصرع العقيد معمر القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. لكنه تمكن بالفعل من جمع الخصوم حول طاولة الحوار مرتين، لكن الطريق ما زال طويلا لإنجاز المهمة ذات العراقيل الكثيرة والتي سبق وتعثر فيها سلفه، طارق متري.
بوصول ليون لطرابلس لأول مرة كانت الأرضية السياسية والعسكرية متصلبة. كل طرف يرفع شعارات متشددة ومتشنجة ضد الطرف الآخر، ولم يكن أحد يصدق أن أيا من هؤلاء يمكن أن يجلس قبالة الآخر. ففي الجبهة الغربية توجد مجموعة مصراتة وبعض البلدات المجاورة للعاصمة التي يهيمن عليها بعض قادة جماعة الإخوان المتطرفين، من خلال رئاسة منتسبين للجماعة لقوة «فجر ليبيا» وإحيائها للبرلمان السابق وتشكيلها لما يسمى حكومة إنقاذ برئاسة عمر الحاسي.
ويرفض أصحاب هذا الفريق التعامل مع الواقع الجديد بعد خسارتهم الانتخابات البرلمانية، كما قرر من فاز منهم في الانتخابات مقاطعة أعمال البرلمان الجديد. أما في الشرق فهناك البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في طبرق بعد أن انتخبه الليبيون الصيف الماضي، في عملية وصفها المراقبون بالنزيهة، وهناك حكومته المنبثقة عنه برئاسة عبد الله الثني والتي تدير أعمالها من مدينة البيضاء، ومعهما الجيش الوطني، الذي ينسق عملياته الحربية انطلاقا من مدينة المرج. وكل من هؤلاء يرفض التعامل مع قوات المتطرفين.
وفي هذا المناخ الملبد بالغيوم، بدأ ليون عمله، وقرر وضع قواعد ينبغي على الجميع الالتزام بها، ومنها الاعتراف بمجلس النواب المنتخب (البرلمان الجديد)، ووضع مبادئ ثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت بحكم القذافي، كأساس للتباحث بشأن الحوار بين الخصوم، وأن يتسع مجلس النواب للجميع واتخاذ إجراءات فورية لمعالجة مخاوف البرلمانيين المقاطعين لجلساته.
لكن المعضلة أمام ليون حتى الآن تتمثل في الزعماء المحسوبين على نظام القذافي. وهؤلاء يمثلون قوة لا يستهان بها للمساعدة في بسط الاستقرار في ليبيا، ولديهم شروطهم أيضا قبل المشاركة في أي حوار.
والتقى ليون مع كل من عقيلة صالح رئيس البرلمان الجديد، ونوري أبو سهمين، رئيس البرلمان المنتهية ولايته. وأجرى اتصالات مع قادة من توجهات مختلفة. وتمكن من خرق السواتر المعتمة التي كانت تحجب الرؤية بين طرفي النزاع، حين أقدم على عقد لقاء في مدينة غدامس الليبية (جنوب) في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي ضم نوابا من مصراتة من المقاطعين للبرلمان الجديد، ونوابا من البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق. كان هذا أول لقاء يقف ليون على رأسه لوضع بداية الخط لطريق طويل على أمل الوصول بالقطار إلى محطة السلام. وبعد أن انتهى لقاء غدامس ظن الكثير من المراقبين أنه فشل. ولم يحقق اللقاء النتائج المرجوة بالفعل، بل إن كل طرف من الطرفين قلل من شأنه. كما أن المتطرفين في طرابلس ومصراتة هددوا من شاركوا فيه، ووصموا اللقاء بأنه «خيانة للثورة».
لكن كان يبدو أن ليون يعرف ماذا يفعل لحلحلة الأمور. فقد كان انعقاد لقاء غدامس في حد ذاته بمثابة العاصفة التي أثارت الجدل في البلاد، خاصة بعد أن شارك فيه نحو 30 نائبا من «النواب الخصوم»، وأدى إلى نقاش مجتمعي وسياسي عن جدوى الاقتتال وعن الفائدة من الصراع المسلح الذي تسبب في وقف معظم صادرت النفط وأكل الأخضر واليابس.
ومما جعل للقاء حوار غدامس قيمة، أنه أعطى اهتماما لقضايا إنسانية ملحة مثل العمل على معالجة الحاجات المعيشية الأساسية وحسم الأمور المتعلقة بعلاج الجرحى عند كل الأطراف، وتسهيل استئناف العمل العادي في جميع المطارات الرئيسة في البلاد بمساعدة الأمم المتحدة.
وبدا أن الرجل يعرف أن ما يحتاجه ملايين الليبيين من حاجات يومية ملحة سيؤدي إلى ضغط من الشارع على الأطراف المتحاربة للجلوس على الطاولة دون شروط مسبقة. ومن هنا بدأت المرحلة الثانية، وهي نقل الحوار إلى مدينة «حنيف»، في سويسرا، ودعوة مزيد من الشخصيات، سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال دعوة ممثلين يمكن أن يعبروا عن القوى المقاطعة للحوار والموجودة في الداخل.. وهو ما حدث بالفعل الشهر الماضي، ما تسبب في زيادة درجة المرونة والقابلية للنقاش والتفكير في «حكومة وحدة وطنية».
وولد ليون في بلدة تقع على البحر المتوسط في 20 أكتوبر عام 1964، هي بلدة «ملقة» في إسبانيا، وكأنه، بأسرته الصغيرة المكونة من زوجة وثلاثة أطفال، كان على موعد مع شؤون الدول التي تطل على هذا البحر المطل على أوروبا وأفريقيا وآسيا.
وارتبط عمل ليون، خريج جامعة «كينجز كوليدج لندن»، والبالغ من العمر نحو 50 عاما، بأجواء البحر المتوسط وبرياح التوجهات الاشتراكية، وكذا بالمشكلات التي تمر بها بلده إسبانيا وجيرانها، إضافة إلى عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، حيث شغل مواقع حزبية وتنفيذية كثيرة، قبل أن يتحول إلى العمل الأممي. ومنذ وقت مبكر التحق السيد ليون بالسلك الدبلوماسي الإسباني منذ عام 1989، حيث عمل في ليبيريا والجزائر واليونان.
وتلقى الرجل تعليمه في البداية، أي قبل الجامعة، في كل من «ملقة» و«برشلونة» بإسبانيا. ويوجد الكثير من الكتابات التي أنجزها حول العالم العربي وعلاقته مع الغرب.. كما قدم محاضرات حول هذه القضية في جامعات مختلفة حول العالم. وتعد محاضراته من المراجع التي يعتد بها فيما يخص الشؤون العربية وقضايا البحر المتوسط التي تهم الباحثين والمراقبين.
وتبعد المدينة التي ولد فيها وتعلم فيها في صباه أيضا، نحو 100 كيلومترا شرق مضيق جبل طارق. وتأسست المدينة منذ نحو ألف عام قبل الميلاد على يد الفينيقيين، حيث كانت تسمى في ذلك العهد باسم «مالاكة» التي تعني «الملح»، قبل أن يحول العرب اسمها، أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا، إلى «مالاجا». وهي نفس المدينة التي ولد فيها الرسام الإسباني الشهير، بابلو بيكاسو. وهي تتشابه في طبيعتها مع مناخ البحر المتوسط اللطيف، حيث تجتذب، بأجوائها وشواطئها وموانيها وعبق التاريخ الموجود فيها، الكثير من السياح، وتلتقي فيها الكثير من التيارات الثقافية الوافدة من دول العالم. وربما كان هذا أحد أسباب انخراط ليون في بداية شبابه في صفوف حزب العمال الاشتراكي الإسباني. ويوصف التيار الاشتراكي الأوروبي عموما بأنه أكثر انفتاحا واستيعابا لحركة الزمن والتطور في السياسية والاقتصاد من التيارات الاشتراكية العتيقة التي كانت مشهورة في آسيا ووصل كثير منها إلى طريق مسدود بعد أن تجاوزته المعطيات الجديدة.
وعضدت المواقع التي مر عليها ليون، بعد ذلك، من قدرته على إدارة ملفات معقدة كما هو الحال في ليبيا حاليا، حيث تمكن أخيرا من إقناع كثير من الأطراف الليبية للجلوس على مائدة الحوار. ومن المناصب التي شغلها وعززت من خبرته الدولية موقع المستشار الشخصي للممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لعملية السلام في الشرق الأوسط في الفترة من عام 1998 إلى عام 2001.
وفي الفترة من عام 2004 إلى عام 2011 خاض تجارب مختلفة مع المناصب في الحكومة الإسبانية، بما في ذلك السكرتير العام في مكتب رئيس الوزراء، ومن قبلها وزير الدولة للشؤون الخارجية، إلى أن أصبح مستشارا خاصا لمجموعة الـ20 في عام 2009.
ورغم تفاني السيد متري، اللبناني، في عمله كممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، وقيادته للبعثة الأممية في هذا البلد المضطرب، فإن الظروف على الأرض كانت تبدو شديدة التعقيد، وتحتاج إلى نوع من التغيير في قواعد التعامل مع الواقع الليبي. ومن هنا جرى اختيار برناردينو ليون لاستكمال المهمة.
ويحمل ليون خبرة سنوات كثيرة من العمل السياسي والدبلوماسي سواء مع حكومة بلاده، أو مع الاتحاد الأوروبي، حيث كان قد جرى من قبل تعيينه في موقع الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في ليبيا.. أي أنه عمل مع الممثلة السامية للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، كما شغل موقع الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لدول جنوب البحر المتوسط، وذلك في الفترة من عام 2011 إلى عام 2014.
وكان أيضا من المبعوثين الأوروبيين الذين تعاملوا كذلك مع الاضطرابات السياسية التي مرت بها مصر عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وكان من رأيه في هذا الشأن «ضرورة تفادي المواجهات بين التيارات المتنازعة».
وفور الإعلان عن اسم ليون كممثل أممي إلى ليبيا، سارعت الكثير من دول العالم للترحيب بهذه الخطوة التي جاءت، بينما كانت الحرب مستعرة بين الأطراف الليبية حول مطار طرابلس الدولي للسيطرة على العاصمة بين ميليشيات مصراتة وميليشيات الزنتان. كما كانت الحرب قد تفجرت في بنغازي بين تحالف ميليشيات «أنصار الشريعة» و«الدروع» وقوات الجيش الوطني الذي كان اللواء خليفة حفتر ينظم صفوفه لطرد المتطرفين من المدينة.
وقال الاتحاد الأوروبي عن تعيين ابن مدينة «ملقة» كمبعوث خاص للأمم المتحدة في ليبيا، إنه يهنئ ليون بحرارة، وإن هذا القرار «يساهم بشكل أساسي في الدعم الذي نقدمه للأمم المتحدة التي تقوم بتنسيق الجهود الدولية لإنجاح العملية الانتقالية في ليبيا»، لكنه أكد أيضا على أهمية أن يكون في ليبيا حوار سياسي شامل، ودعا الليبيين للتعاون مع البعثة الأممية وممثلها للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وإعادة بعث العملية السياسية.
وحين بدأ عمله في ليبيا مع أواخر أغسطس الماضي، وجد ليون في ليبيا، وفقا لوصفه «عملية سياسية مترنحة قربت البلاد من حافة نزاع مطول وصراع أهلي». وبدأ على الفور في إجراء لقاءات مع أطراف النزاع والاستماع إلى وجهات نظر القادة الميدانيين والسياسيين، في صبر ومرونة وطول بال.. فزار طرابلس ومصراتة والزنتان وطبرق وغيرها والتقى الأطراف الفاعلة على الساحة الليبية.
ويقول ليون عقب كل تلك الزيارات والجولات بين المدن الليبية، إن جميع الزعماء الليبيين اعترفوا بالخلافات السياسية العميقة، وانعدام الثقة، وأنهم أكدوا ضرورة التغلب على هذه الخلافات وإنهاء الاقتتال واستئناف العملية السياسية. وشدد، في لغة حاسمة وموقف صلب، على محاسبة كل من يعطل العملية السياسية ويثبت مسؤوليته عن استمرار الصراع المسلح أو انتهاك حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
وخلال هذه الأيام بدأ التوافق على العودة لعقد جلسات الحوار في ليبيا من جديد. ويشرف ليون، بالتنسيق ما بين الخصوم، على مباحثات لإتمام التحضيرات اللوجيستية والأمنية، وتحديد مكان وزمان الحوار للاستمرار فيه إلى النهاية، بقدر الإمكان.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.