«العنف المقدس»... الشر في علم الأصوليات

على هامش زيارة البابا للعراق

البابا من أور التاريخية في جنوب العراق: الإرهاب خيانة للدين
البابا من أور التاريخية في جنوب العراق: الإرهاب خيانة للدين
TT

«العنف المقدس»... الشر في علم الأصوليات

البابا من أور التاريخية في جنوب العراق: الإرهاب خيانة للدين
البابا من أور التاريخية في جنوب العراق: الإرهاب خيانة للدين

بعد أن استقبله رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بابتسامة ترحيبية صادقة ومتألقة على أرض المطار، وكذلك فعل رئيس الجمهورية برهم صالح لاحقاً في القصر الجمهوري، كانت أولى كلماته هي التالية: كفى عنفاً! كفى تطرفاً! كفى تعصباً! هذه هي الكلمات التي ينتظرها في الواقع جميع سكان المنطقة وليس فقط أهل العراق. وكانت أولى كلماته أيضاً مخصصة للإيزيديين حتى قبل المسيحيين؛ نظراً للعنف الهمجي وغير المسبوق الذي تعرضوا له على يد الدواعش المجرمين، ونظراً لآلامهم وآلام نسائهم وأطفالهم التي تفوق الوصف. وهي آلام سكت عنها للأسف قسم كبير من المثقفين العرب واعتبروها هامشية وربما مبررة لاهوتياً أو دينياً. أكاد أرتجف وأنا أكتب هذه الكلمات متمنياً ألا تكون صحيحة. منذ البداية إذن كان هذا البابا يعرف ما يريد ولا يخشى في الحق لومة لائم. منذ البداية وجّه إصبع الاتهام إلى المسؤول الأساسي عن الشر المستطير الذي أدمى العراق، والمنطقة، والعالم. وبابا روما يعرف جيداً أن هذا الشر له اسم واحد في علم الأديان: العنف التكفيري اللاهوتي، أي العنف الذي يخلعون عليه المشروعية الإلهية ذاتها. وهل هناك من مشروعية فوقها أو تعلو عليها؟ وبالتالي، فهو أخطر أنواع العنف الذي شهدته البشرية على مدار تاريخها الطويل. وذلك لأني أقتلك وأنا واثق من أني سأتقرب إلى الله تعالى بقتلك، بل وسأدخل الجنة بذبحك. هذا هو «العنف المقدس» أو الذي يتوهمون أنه مقدس. من هنا الطابع المريب لهذا العنف الذي أرعب المنطقة كلها. فأنت كافر لمجرد أنك «ولدت» في دين آخر أو مذهب آخر مختلف. وبالتالي، فيحل ذبحك شرعاً. لماذا لم تولد في المكان المناسب، في المكان الصح؟ لماذا ولدت في المكان الخطأ؟ لاحظوا الطابع التعسفي أو الاعتباطي للسؤال. هذا هو اللاهوت الأسود الذي يتحكم بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي كله حالياً. ولهذا السبب ركز البابا على هذه النقطة فوراً ما إن وطأت قدماه «الأرض الشهيدة»، على حد تعبيره: أي أرض العراق. فهو رجل دين كبير ويعرف عمّ يتحدث بالضبط. إنه يعرف أين تكمن المشكلة والداء العضال الذي ينخر في منطقة الشرق الأوسط كلها ويحولها إلى برميل بارود متفجر. ولهذا السبب وصف الإيزيديين الكرام في جبل سنجار بأنهم «الضحايا الأبرياء للبربريات المجنونة واللاإنسانية بالمرة». رسالة موجهة مباشرة ليس فقط إلى الدواعش، وإنما إلى كل من يتعاطف معهم سراً أو علانية. وهم كثر للأسف حتى بين المثقفين أو أشباه المثقفين!
في كتابه الحواري الكبير عن «السياسة والمجتمع» يقول البابا للمفكر الفرنسي دومنيك ولتون ما معناه: ممارسة العنف باسم الله خطأ لا يغتفر. الله عز وجل لا يمكن أن يبرر العنف الأعمى بأي شكل من الأشكال. الله محبة وغفران. العنف والله خطان متوازيان لا يلتقيان. بمعنى آخر، فإن الدين لا يمكن أن يبرر العنف إذا ما فهمناه بشكل صحيح. وعندما يعترض عليه محاوره قائلاً: ولكن هذا ما يحصل بالضبط في منطقة الشرق الأوسط على يد الجماعات المتطرفة؟ فهم يعتبرون أن العنف حلال، بل ومقدس، بل وواجب وفرض عين؟ وعندئذ يقول له البابا: صح، معك حق. ولهذا السبب أنصح إخواني المسلمين بإعادة قراءة نصوصهم على ضوء الحاضر والعلم المعاصر. أنصحهم بتطبيق منهجية النقد التاريخي على نصوصهم المقدسة كما فعلنا نحن مع نصوصنا وكتاباتنا المقدسة. وإلا فلن نخرج من المأزق أبداً. هناك نصوص وفتاوى لاهوتية تجيز العنف وتحلله وتبيحه، بل وتعتبره مقدساً! وينبغي أن نواجهها وجهاً لوجه. وقد صدق البابا. هذه مشكلة العصر في رأينا. وهذا ما أدمى العراق على مدار العشرين سنة الأخيرة من أبو مصعب الزرقاوي وحتى الدواعش الحاليين. هنا يكمن أصل البلاء. لقد وضع يده على الجرح. وبالتالي فالمسألة ليست سياسية سطحية على عكس ما نتوهم. وإلا لهان الأمر. وإنما هي أخطر من ذلك بكثير: إنها دينية لاهوتية بالدرجة الأولى. ولهذا السبب ينكص معظم المثقفين العرب على أعقابهم صاغرين ما أن يصلوا إليها.
لتوضيح هذه النقطة أكثر لا شيء أفضل من علم الأصوليات المقارنة. وذلك لأننا ما دمنا منغلقين على أنفسنا داخل تراث واحد أو متقوقعين داخل مذهب واحد فلا يمكن أن نفهم شيئاً. ينبغي أن ننظر إلى الأمور من المنظور الواسع العريض. فالمقارنة هي أساس الفهم والنظر. وبضدها تتبين الأشياء. وهنا يساعدنا البابا ذاته على ذلك. يقول في مكان آخر من هذا الكتاب القيم الممتع: عندما كنت طفلاً صغيراً كانوا يقولون لنا بأن جميع البروتستانتيين سوف يذهبون إلى الجحيم. كلهم من أولهم إلى آخرهم (وهنا ينفجر البابا بالضحك أمام محاوره، بل ويضحكان معاً). وذلك لأننا نحن الكاثوليك كنا نعتبر البروتستانتيين بمثابة الهراطقة أو الزنادقة المنحرفين عن الصراط المستقيم: أي عن المسيحية الحقة أو الصحيحة. كنا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا يوجد إلا مذهب واحد صحيح أو فرقة ناجية وحيدة في المسيحية: هي الفرقة الكاثوليكية. هكذا كان اعتقادنا نحو عام 1940 – 1942، أي عندما كان عمري 4 أو 5 سنوات فقط. ثم تغيرنا وتطورنا ولم نعد نحرم أحداً من نعمة الله. لقد تخلينا عن عقيدة التكفير بعد مجمع الفاتيكان الثاني الذي جدد اللاهوت الكاثوليكي تجديداً رائعاً وأحدث التقارب اللاهوتي مع المذاهب المسيحية الأخرى، بل وحتى مع المسلمين وبقية أديان العالم. وعندئذ تصالحت المسيحية مع نفسها ومع الحداثة بعد عراك طويل.
والآن نطرح هذا السؤال: عمّ يتحدث البابا عن المسيحية أم عن الإسلام؟ في الواقع أن كلامه ينطبق حرفياً على الجهة الإسلامية أيضاً مع فارق أساسي: هو أنهم تخلوا كلياً عن لاهوت التكفير وتبنوا لاهوت التنوير، في حين أننا لا نزال متشبثين بلاهوت التكفير ولا نرضى عنه بديلاً. بل ولا نستطيع منه فكاكاً. نحن محبوسون داخله ومسيجون بالأسلاك الشائكة من كل الجهات. بل وأكثر من ذلك: نحن مستمتعون كل الاستمتاع بهذا الانغلاق اللاهوتي داخل قفصنا الذهبي. لماذا؟ لأنه يشعرنا بالتمايز والاستعلاء على بقية أديان العالم وجميع شعوب الأرض. أنه يؤمن لنا الطمأنينة والسكينة بل ويشعرنا بأننا وحدنا في الجنة وثلاثة أرباع المعمورة في النار. نحن وحدنا المؤمنون وكل الآخرين كفار. ما أجمل هذا الشعور! ما أقواه! لا يمكن أن نفهم التفجيرات التي أدمت العراق على يد الزرقاوي ومن تلاه إن لم نأخذ لاهوت التكفير وفتاواه المعروفة بعين الاعتبار. ولذلك؛ أقول بأن المسألة لاهوتية في البداية قبل أن تكون سياسية أو قل أنها لاهوتية - سياسية إذا ما استعرنا مصطلح سبينوزا. الشيء الذي يفجّر المشرق العربي ويدمره حالياً هو اللاهوت السياسي التكفيري الظلامي. نقطة على السطر. الشيء الذي أجهض الربيع العربي الذي كان ذا شحنة تحريرية حقيقية في البداية هو مصادرته من قبل الظلاميين والإخوان المسلمين. وهكذا بدلاً من أن يقذف بنا إلى الأمام أعادنا قروناً إلى الوراء. في حياتها كلها لم تنتعش الطائفية والمذهبية كما هي منتعشة حالياً. حتى في القرون الوسطى كانت أخف وطأة. ومع ذلك فيصر أشباه المثقفين العرب على القول بأنه لا توجد مشكلة دينية أو طائفية في العالم العربي! لحسن الحظ، فإن البابا مثقف وعشير عرب في الأرجنتين ويعرف جيداً أين تكمن المشكلة والداء العضال. ولهذا السبب فإن زيارته رُحّب بها في العراق والمنطقة بأسرها. إنه طبيب يداوي الجراح. علاوة على ذلك فهو شخص مفعم بالنوايا الطيبة ويحب الخير فعلاً.
وكانت القمة الروحية التي جمعته في النجف الأشرف مع آية الله علي السيستاني، تتويجاً لكل ذلك، فهي موجهة ضد «داعش» وقوى التطرف والظلام التي اجتاحت العراق منذ عام 2014 وحتى عام 2017 تاريخ انهيار الخلافة السوداء. ومعلوم أن فتوى السيستاني الشهيرة في يونيو (حزيران) 2014 هي التي أوقفت المد الداعشي الذي وصفه البابا بالهمجي والوحشي البربري. إنها فتوى مباركة غيرت مجرى التاريخ. هكذا نلاحظ أن الدين يمكن أن يُستخدم في طريق الخير(السيستاني)، أو في طريق الشر(داعش). وهذا شيء يدركه البابا أكثر من أي شخص آخر. كما ويدرك أن الصراع الجاري حالياً ليس فقط في العراق وإنما في المنطقة كلها هو بين مفهومين للدين: مفهوم تعايشي إنساني متسامح، ومفهوم تكفيري «داعشي» متعصب. الأول يحافظ على الوحدة الوطنية وإمكانات التعايش في حين أن الثاني يمزقها ويجعل من التعايش جحيماً لا يطاق!



عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
TT

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)
المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا، فتلامس بصدقها الآخرين، مؤكداً في حواره مع «الشرق الأوسط» أن الفيلم يروي جانباً من طفولته، وأن فكرة توقف الزمن التي طرحها عبر أحداثه هي فكرة سومرية بامتياز، قائلاً إنه «يشعر بالامتنان لمهرجان البحر الأحمر الذي دعم الفيلم في البداية، ومن ثَمّ اختاره ليشارك بالمسابقة، وهو تقدير أسعده كثيراً، وجاء فوز الفيلم بجائزة السيناريو ليتوج كل ذلك، لافتاً إلى أنه يكتب أفلامه لأنه لم يقرأ سيناريو كتبه غيره يستفزه مخرجاً».

بوستر الفيلم يتصدره الصبي آدم (الشركة المنتجة)

ويُعدّ الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين كل من العراق وهولندا والسعودية، وهو من بطولة عدد كبير من الممثلين العراقيين من بينهم، عزام أحمد علي، وعبد الجبار حسن، وآلاء نجم، وعلي الكرخي، وأسامة عزام.

تنطلق أحداث فيلم «أناشيد آدم» عام 1946 حين يموت الجد، وفي ظل أوامر الأب الصارمة، يُجبر الصبي «آدم» شقيقه الأصغر «علي» لحضور غُسل جثمان جدهما، حيث تؤثر رؤية الجثة بشكل عميق على «آدم» الذي يقول إنه لا يريد أن يكبر، ومنذ تلك اللحظة يتوقف «آدم» عن التّقدم في السن ويقف عند 12 عاماً، بينما يكبر كل من حوله، ويُشيع أهل القرية أن لعنة قد حلت على الصبي، لكن «إيمان» ابنة عمه، وصديق «آدم» المقرب «انكي» يريان وحدهما أن «آدم» يحظى بنعمة كبيرة؛ إذ حافظ على نقاء الطفل وبراءته داخله، ويتحوّل هذا الصبي إلى شاهدٍ على المتغيرات التي وقعت في العراق؛ إذ إن الفيلم يرصد 8 عقود من الزمان صاخبة بالأحداث والوقائع.

وقال المخرج عُدي رشيد إن فوز الفيلم بجائزة السيناريو مثّل له فرحة كبيرة، كما أن اختياره لمسابقة «البحر الأحمر» في حد ذاته تقدير يعتز به، يضاف إلى تقديره لدعم «صندوق البحر الأحمر» للفيلم، ولولا ذلك ما استكمل العمل، معبراً عن سعادته باستضافة مدينة جدة التاريخية القديمة للمهرجان.

يطرح الفيلم فكرة خيالية عن «توقف الزمن»، وعن جذور هذه الفكرة يقول رشيد إنها رافدية سومرية بامتياز، ولا تخلو من تأثير فرعوني، مضيفاً أن الفيلم بمنزلة «بحث شخصي منه ما بين طفولته وهو ينظر إلى أبيه، ثم وهو كبير ينظر إلى ابنته، متسائلاً: أين تكمن الحقيقة؟».

المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

ويعترف المخرج العراقي بأن سنوات طفولة البطل تلامس سنوات طفولته الشخصية، وأنه عرف صدمة الموت مثله، حسبما يروي: «كان عمري 9 سنوات حين توفي جدي الذي كنت مقرباً منه ومتعلقاً به ونعيش في منزل واحد، وحين رحل بقي ليلة كاملة في فراشه، وبقيت بجواره، وكأنه في حالة نوم عميق، وكانت هذه أول علاقة مباشرة لي مع الموت»، مشيراً إلى أن «الأفلام تعكس قدراً من ذواتنا، فيصل صدقها إلى الآخرين ليشعروا بها ويتفاعلوا معها».

اعتاد رشيد على أن يكتب أفلامه، ويبرّر تمسكه بذلك قائلاً: «لأنني لم أقرأ نصاً كتبه غيري يستفز المخرج داخلي، ربما أكون لست محظوظاً رغم انفتاحي على ذلك».

يبحث عُدي رشيد عند اختيار أبطاله عن الموهبة أولاً مثلما يقول: «أستكشف بعدها مدى استعداد الممثل لفهم ما يجب أن يفعله، وقدر صدقه مع نفسه، أيضاً وجود كيمياء بيني وبينه وقدر من التواصل والتفاهم»، ويضرب المثل بعزام الذي يؤدي شخصية «آدم» بإتقان لافت: «حين التقيته بدأنا نتدرب وندرس ونحكي عبر حوارات عدة، حتى قبل التصوير بدقائق كنت أُغير من حوار الفيلم؛ لأن هناك أفكاراً تطرأ فجأة قد يوحي بها المكان».

صُوّر الفيلم في 36 يوماً بغرب العراق بعد تحضيرٍ استمر نحو عام، واختار المخرج تصويره في محافظة الأنبار وضواحي مدينة هيت التي يخترقها نهر الفرات، بعدما تأكد من تفَهم أهلها لفكرة التصوير.

لقطة من الفيلم (الشركة المنتجة)

وأخرج رشيد فيلمه الروائي الطويل الأول «غير صالح»، وكان أول فيلم يجري تصويره خلال الاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثَمّ فيلم «كرنتينة» عام 2010، وقد هاجر بعدها للولايات المتحدة الأميركية.

يُتابع عُدي رشيد السينما العراقية ويرى أنها تقطع خطوات جيدة ومواهب لافتة وتستعيد مكانتها، وأن أفلاماً مهمة تنطلق منها، لكن المشكلة كما يقول في عزوف الجمهور عن ارتياد السينما مكتفياً بالتلفزيون، وهي مشكلة كبيرة، مؤكداً أنه «يبحث عن الجهة التي يمكن أن تتبناه توزيعياً ليعرض فيلمه في بلاده».