أن تنشئ مكتبة... أليست تلك محاولة أخرى للحياة؟

فدوى الزياني
فدوى الزياني
TT

أن تنشئ مكتبة... أليست تلك محاولة أخرى للحياة؟

فدوى الزياني
فدوى الزياني

لأن الجائحة كانت حملاً ثقيلاً لم يكن في مدى التوقعات، فقد لجأتُ مثل غيري إلى الهروب والانطواء. حمَّلت كثيراً من الكتب الإلكترونية، وهو فعل لم تفرضه عليّ ظروف الجائحة، إذ رغم عشقي للورق الأصفر ورائحته، فإن إغراء هاتف يلازم يدي أسهل بكثير من حمل كتاب. وضعت أمام عيني روايات وكتباً تستحق أن أهجر العالم كله لأجل دخول عوالمها، لكن قدرة استيعابي للأمر تركتني عاجزة تماماً أمام الكتب. كان حظ الكتابة أسوأ، فعلى الأقل هناك أمل كبير لأن أستعيد حبي للقراءة، لأنها الشيء الوحيد الذي يفتح شهيتي للحياة. لكن فعل الكتابة أصبح موازياً لفعل اللاجدوى. كثيرون تحدثوا عن توقعاتهم للاختلاف والتغيير الذي ستتخذه أشكال الكتابة بعد الجائحة، لكن في اعتقادي أن أغلب النصوص التي ستأتي بعد ذلك نصوص سوداوية غالباً، أو مفرطة في الأمل بشكل مثير للشفقة. لست الوحيدة التي تفكر هكذا؛ سنخرج من هذا الوضع بعاهات نفسية، خصوصاً من مارسوا الحجر المفروض بطواعية، في محاولة بطولية لإنقاذ العالم. نحن أكثر الناس تضرراً بسبب أخلاقياتنا وسلوكنا الذي يعد حضارياً، بينما من مارسوا فوضاهم وكسروا الحجر سيعيشون ما تبقى لهم من الحياة بسلاسة أكبر.
كأي قارئ عادي، أميل إلى جنس الرواية، وأجد فيها مبتغاي. من أهم قراءتي خلال هذا العام الذي عشنا معظمه تحت رحمة كورونا: «الأشياء تتداعى» للكاتب النيجيري تشنوا أتشيبي؛ رواية من روائع الأدب الأفريقي تظهر الوجه الذي نجهله عن الشعوب الأفريقية، وتبرز خبايا حضارة بجذور عميقة، وأيضاً تبرز مدى إباء واعتزاز القبيلة الأفريقية بثقافتها العميقة، ومعتقداتها الراسخة التي حاولت المحافظة عليها رغم التداعي الكامل الذي أحدثه الاستعمار بالمنظومة الثقافية المحلية. أيضاً «سهم الله»، وهي رواية للكاتب نفسه تتناول موضوع التبشير، والشقاق الذي أدخله المستعمر الأبيض إلى القرى النيجيرية. الروايتان فتحتا شهيتي بشراهة على الأدب الأفريقي.
أيضاً «هوت ماروك»، رواية المغربي ياسين عدنان التي تأخرت في أن أقرأها. كان الأمر مؤسفاً لي، حين اكتشفت أنني موزعة بين كل شخص من شخوص الرواية وقرائنهم من الحيوانات التي اختارها الكاتب بعناية فائقة واستشعار ذكي للغاية. كما أن الأحداث، رغم أنها بدأت في زمن وانتهت في آخر، يبدو أنها الأحداث نفسها التي عشناها مع بداية دخول الإنترنت، والتغيير الذي أحدثته بداخل كل واحد منا. علمتني بداية هذه الرواية صبراً لم أكن أتقنه، فيما أخرجتني نهايتها بحياد أستعظم قدرة صانعه في النص.
و«في مدح الكسل» لبراتراند راسل، نكون مع حديث عن فضائل الكسل، ولماذا يجب أن نعمل أقل. ولأني أؤمن بأن الكسل شكلاً من أشكال الحياة، فالعنوان هو أكثر سبب شدني للكتاب.
«الحريم السياسي» للمغربية فاطمة المرنيسي، هو كتاب آخر أسفت لأنني تأخرت في قراءته. كتاب مهم يلقي الضوء على نساء في دائرة الحكم منذ عهد الرسول، وضعت به الكاتبة يدها في عش الدبابير، حين قامت ببحث تاريخي مهم تناول الحريم السياسي الرافض لضوابط المجتمع التقليدية المفروضة، والتفاوت الشاسع بين وضعية المرأة ووضعية الرجل، وأيضاً في طرحها لأسئلة مربكة استفزازية لا تزال حتى الآن دون إجابات واضحة صريحة.
«أخف من الهواء» لفيديريكو جانمير، وهي رواية خفيفة عميقة في الوقت نفسه: أن يستمع أحد ما لقصتنا، فهذا ما نريده باستماتة، حتى لو احتاج الأمر لحبس هذا الشخص.
مع «عشيق الليدي تشاترلي» و«مدام بوفاري» و«صاحب الظل الطويل»، كانت العودة للبدايات والخطوات المتعثرة الخجولة في القراءة، وللروايات التي تترك أثرها العظيم في القارئ.
كان للشعر نصيب. قرأت مجاميع مهمة من الشعر العربي الحديث والشعر العالمي المترجم: «أغنيات المنفى» لناظم حكمت، و«مديح الظل» لخوخي لويس بورخس، و«فراشة من هيدروجين» لمبارك وساط، و«وقت المياه، وقت الأشجار» لآن ساكستون، و«هذا الألم الذي يضيء» لعدنان الصائغ، و«عجلة مشتعلة تمر فوقنا» للحائزة على جائزة نوبل لهذه السنة الأميركية لويز غليك، و«مرايا عمياء» و«ديوان المائدة» لسعد سرحان، و«رسائل» سيلفيا بلاث، و«إياك أن يموت قبلك» لأحمد الملا، و«رعاة العزلة» لأمجد ناصر، و«قصائد» برتولد بريخت، و«عشرون قصيدة حب وأغنية» لبابلو نيرودا، و«صانع المرايا» لخوان مانويل روكا، إلى جانب كتب أخرى ورقية وإلكترونية بدأتها وتوقفت في منتصف الطريق، بفعل الكسل غالباً ونوبات الاكتئاب التي لازمتنا طوال فترة الحجر، أو ربما هي شماعة أخرى فقط.
أؤمن أن القراءة خلاصنا في هذا العالم الموحش، فاقتنيت مكتبة صغيرة رتبت فيها كتبي الموزعة في أرجاء البيت. كل يوم أقرأ عناوين الكتب، ولو بشكل عابر. هكذا أشعر بقوة تكفيني لمواجهة يوم كامل. لقد قالها خورخي لويس بورخيس: «أنشئ مكتبة، ولو من ثلاثة كتب، وستقاوم جزءاً من قباحة العالم، كل مكتبة هي صفعة في وجه العالم الجاهل، ترفع من أميته وجهالته». وهكذا فعلت. أن تنشئ مكتبة، أليست تلك محاولة أخرى للحياة؟!
* كاتبة مغربية



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».