القراءة في زمن «كورونا» 1 -2: كتاب خليجيون: قراءات عن الجائحة وسير وفكر وفلسفة... وعودة للتاريخ

القراءة في زمن «كورونا»  1 -2: كتاب خليجيون: قراءات عن الجائحة وسير وفكر وفلسفة... وعودة للتاريخ
TT

القراءة في زمن «كورونا» 1 -2: كتاب خليجيون: قراءات عن الجائحة وسير وفكر وفلسفة... وعودة للتاريخ

القراءة في زمن «كورونا»  1 -2: كتاب خليجيون: قراءات عن الجائحة وسير وفكر وفلسفة... وعودة للتاريخ

وفرت جائحة «كورونا»، كما يبدو، الوقت «القسري» للتفرغ للقراءة، وسط قبضة عزلة إجبارية، وهلع من الوباء وتداعياته الكارثية، فجاءت القراءات، وإن غالباَ بشكل غير مباشر، حاملة بصمات الوباء شكلاً وروحاً ومعنى... «فلسفة الموت»، وروايات «الطاعون»، و«الحب في زمن الكوليرا»، روايات نفضت عن نفسها غبار التاريخ لتحيا من جديد وكأنها كتبت في هذه اللحظات الاستثنائية من تاريخها الإنساني.
ماذا قرأ الشعراء والروائيون والنقاد والمثقفون العرب في مثل هذا المناخ؟ هل وفر لهم فرصة للقراءة الحقيقية، أم كانت هذه القراءة وسيلة للهروب من العزلة والضجر والملل والاكتئاب، ومن حياة لاهثة ومضطربة ممهورة بوشم الخوف على شتى المستويات؟
في قبضة عزلة إجبارية، لم يختاروها، وهلع من جائحة كورونا (كوفيد - 19) وتداعياتها الكارثية، ماذا قرأ الأدباء والشعراء والمثقفون المصريون؟ هل وفر لهم هذا المناخ فرصة للإبداع؟ أم أصابتهم العزلة بالضجر والملل والاكتئاب، خصوصاً أنها أصبحت تحكم نظرتهم لأنفسهم، ووجودهم في حياة لاهثة ومضطربة على شتى المستويات؟

وفرت جائحة «كورونا» كما يبدو الوقت القسري للتفرغ للكتابة، ولكنه أيضاً طبع المزاج بلونه المتشائم، فجاءت القراءات تحمل بصمات الوباء شكلاً وروحاً ومعنى... «فلسفة الموت»، وروايات «الطاعون»، و«الحب في زمن الكوليرا»، نفضت الغبار عن نفسها وعادت بين الأيدي من جديد.
هو عام ممهور بوشم الخوف... حتى القراءة غاصت في لجج المأساة.

القاص والروائي السعودي جبير المليحان:
«حرب نهاية العالم»

نادراً ما تختار سجنك بنفسك؛ وهذا ما فرضته عليّ كورونا!
بتعمد بقيت في البيت بعيداً عن مخالطة الآخرين «خوفاً» من وحش هذا الوباء. وقد وجدت فائضاً كبيراً من الوقت لم أتعوده في حياتي التي لا تخلو من الضجيج. ولذلك فالخيار الأفضل هو القراءة والكتابة؛ شيئان أحبهما، وأزعم إتقان ممارستهما. وجدت لدي كماً هائلاً، وكنوزاً من الكتب التي اقتنيتها طوال الأيام ولم أتمكن من قراءتها (لضيق الوقت!)، وأولها سلسلة روايات الرائع الإسباني كارلوس رويث زافون «مقبرة الكتب المنسية» والمؤلفة من أربع روايات تُشكّل تيمة أدبية أساسية، ترتبط ببعضها عبر الشخصيات والمواضيع المتعددة، غير أن كل رواية منها مستقلة عن الأخرى ومنفردة بذاتها.
ثم انتقلت إلى جاره العظيم المبدع جوزيه ساراماجو، ورواياته المدهشة «العمى» و«انقطاعات الموت» و«قايين» و«الطوف الحجري» و«الذكريات الصغيرة» و«مسيرة الفيل»، وبقية رواياته الغريبة والمدهشة حتى مع كآبة بعضها. وكنت قد قرأت بعضاً من روايات الكاتب الكبير البيروفي ماريو باراغاس يوسا كرواية «حفلة التيس»، ورواية «البيت الأخضر» ورواية «العمّة جوليا»، لكني توقفت طويلاً أمام ملحمته الرائعة «حرب نهاية العالم» وترجمتها الجيدة لأمجد حسين. هذه الرواية بحجمها الكبير وعدد صفحاتها التي تناهز 715 صفحة، وبخط صغير؛ فريدة من نوعها، وهي من الكتب التي تستمتع بقراءتها وتبقى في ذاكرتك وقتاً طويلاً كرواية «مائة عام من العزلة» لماركيز مثلاً.
تحكي رواية «حرب نهاية العالم» قصة حرب برازيلية. غير أنها يمكن أن تحكي عن أي حرب أخرى، حتى الحروب الحالية التي تتناحر فيها قوة العقل مع خرافة المعتقد. تتحدث الرواية - زمنياً - عن السنوات الأخيرة في القرن التاسع عشر، حيث أطاح انقلاب جمهوري بملكية براغانسا.
وجاء «المرشد» أو المسيح المعاصر مبعوث العناية الإلهية لخلاص البشر قبل حلول نهاية العالم عام 1900.
هذا المرشد لا يميزه غير وشاحه أرجواني اللون، وكاريزماه الطاغية في أوساط المعدمين والفقراء والمجرمين والفارين من السجون والعبيد والمضطهدين والمفلسين. لقد جاء لينقذهم من المؤامرة الماسونية البروتستانتينية الكافرة المعادية لله التي ستقر النظام المتري وفصل الدين عن الدولة. تستمر الرواية بتعدد شخصياتها، ووصفها الدقيق بأسلوب سلس كأنك تعيش تفاصيل الحدث.
الروائية والكاتبة السعودية
أميمة الخميس: «واستقرت بها النوى»

لأنه في 2020 حدث الذي لم يحدث، فنحن أيضاً قرأنا الكتب المقصاة المهملة التي كنا نعد أنفسنا يوم ما بأننا سنطالعها، ولا ندري متى وكيف؟ ويبدو أن تسعة أشهر من لزوم المنزل، جعلتنا نذهب إلى لزوم ما لا يلزم فوق الأرفف، نلطف بها نظرات التأنيب والتقريع من الكتب المؤجلة في أرجاء المكتبة.
منها الكتاب الضخم «تاريخ القرآن» للمستشرق نولدكه ولم يضف لي جديداً على مستوى الأطروحات الاستشراقية، وأيضاً المجلد الضخم لكتاب «المركزيات الثقافية» لإبراهيم عبد الله، وهو كتاب ثري في نقد الأفكار العقدية والعرقية والثقافية، التي تتبلور عبرها المركزيات الحضارية، وكتاب صادق جلال العظم «ما بعد ذهنية التحريم»، فوجدته امتداداً لكتابه السابق «ذهنية التحريم».
ويندرج في نطاق الموسوعات كتاب «موسوعة العاقل» الذي قدم فيه الكاتب يوفال هراري تاريخاً مختصراً للنوع البشري، هذا الكتاب الذي ترجم لعشرات اللغات، ووزعت منه ملايين النسخ، يصنف من باب الكتب العلمية الشعبوية Popular science، لكن القارئ لا يفتقد المتعة والدهشة في أي صفحة من صفحاته.
وباقي مطالعاتي تتصل بنادي كتاب أشاركه مع مجموعة من الصديقات، ومن خلاله نقرأ معاً 24 كتاباً سنوياً بمعدل كتابين بالشهر ونناقشها معاً. سأشير إلى أبرز الكتب في قائمة هذا الموسم الذي أعتقد تتصدره «رباعية نابولي» للروائية الإيطالية إيلينا فيرنتي، وهي باعتقادي من أروع الروايات الحديثة التي تقدم منظوراً نسوياً ذكياً وشفافاً ومختلفاً في تفسير هذا العالم.
أيضاً تأتي رواية (قد تكون أقرب للسيرة الذاتية) «أن تقرأ لوليتا في رمضان» للكاتبة آذر نفيسي بمحتوى ثري لتجربة أكاديمية ابنة لعائلة مستنيرة في إيران، تعرضت لبطش نظام لاهوتي ثيوقراطي.
أما كتاب كارل بوب «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، رغم أنه صدر عام 1945 ما زال مدهشاً بالنسبة لي، فكاتبه كارل بوبر يصنف كآخر فلاسفة التنوير، ويرفض في كتابه النزعات الشمولية التاريخانية التي تكبل إرادة الفرد، فهو الموازي الفلسفي للروائي جورج أورويل.
وأنهيت هذا العام بسيرة د. حمزة المزيني «واستقرت بها النوى»، المدهش والممتع معاً، فمن خلال الخاص ننتقل إلى العام، وننظر برؤية بانورامية، كيف تبلورت الهوية الجمعية الوطنية، عبر كثير من النضالات والتضحيات والولاء والحب الذي رتق الشتات وأسهم في تأسيس معالم الدولة المدنية الحديثة.

الكاتبة السعودية رجاء البوعلي:
بين «الطاعون» و«فلسفة الموت»!

بدأ عام 2020 بارداً عليّ بعد رحيل والدي على حِين غرَّة في نهاية 2019، الحدث الذي أعادني بقوة إلى زاوية القراءة من ثلاثة مسارات: أدبية وفكرية وشيء من الفلسفة. فقد قطعت وعداً داخلياً أن يكون عملي الآتي مجموعة قصصية، أوثق فيها لحظات حاسمة عبر السرد؛ ليبقى شاهداً على حياة الإنسان ودهشته الصارخة في لحظات وجودية عظيمة كالموت. فبدأت قراءاتي حول فلسفة الموت والعالم الآخر، جاء ذلك عبر قراءة لبعض آراء الفلاسفة والعلماء مثل: أفلاطون، وديكارت، وهاسكر، وإيريك لنبرغ، ودوركين، وكيكغور، وفتغنشتاين ومعتقدات بعض الديانات كالهندوسية والبوذية والإسلام، كذلك الروايات التي عالجت تلك القضية بموضوعية غير مسبوقة كـ«انقطاعات الموت» للروائي البرتغالي جوزيه سارماغوا.
أدبياً، احتلت الروايات والدواوين الشعرية النصيب الأكبر من قراءاتي لهذا العام، فمن عاداتي مجاراة الحدث المعاصر بقراءة ما يقابله في الكتب حتى لو تطلب الأمر تكرار القراءة، هكذا رافقتني «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، تؤازرني طيلة فترة الحجر الذي صارعناه مُثقلاً من شهر مارس (آذار)، أقارب بها يوميات «كوفيد - 19»، كما تقدمت قراءاتي للمجموعات القصصية المترجمة تحديداً مثل «الضفة الثالثة للنهر»، وهي قصص مترجمة من أميركا اللاتينية وغيرها من الأعمال السردية المنوعة لستيفان زفايغ، وهرمان هيسه، ولويجي بيرانديللو، وذلك لتدريب مهاراتي السردية القصصية - تحديداً - لعلها تُسفر عن قصص قصيرة مقبلة في الطريق.
فكرياً، عُدت إلى الكتب النقدية والفكرية بشكل انتقائي جداً، كالذي يخطو بحذر على أطراف شاطئ يدرك جيداً مدى غزارته، فصاحبت سعيد ناشيد ببعض كتبه، وإيزايا برلين في «الحرية»، وميشيل فوكو في «تاريخ الجنسانية»، والدكتور عبد الجبار الرفاعي.

الشاعر السعودي إبراهيم زولي:
«رسائل إلى ميلينا»

ما من شك في أن المحصول القرائي في عام 2020 م كان وفيراً، ولا يمكن مضاهاته، إلا ما ندر، بسنوات خلت، والمؤكد أن جائحة «كوفيد - 19» كان لها الفضل في ذلك، إن كان ثمة من فضائل للأوبئة. وما يميز هذا العام، أقله من تجربتي الخاصة، أنه قدم اقتراحات قرائية مغايرة، وليست ورقية فقط، كالكتاب الصوتي الذي بات خياراً مطروحاً في زمن ضجيج الميديا، والأجهزة الذكية، وغياب معارض الكتب، وكذلك المؤلفات التي لا يمكن لك الحصول عليها، لسبب أو لآخر، إلا بصيغة «بي دي إف».
وكما كان الوباء يصيب ملايين سكان المعمورة، كانت حجراتنا في الوقت عينه تضج بجثث المؤلفين ومداد كلماتهم، وهم يستدرجوننا لغواية تصفح آثارهم صباح مساء.
من الكتب التي قرأتها كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» الذي دوّن فيه الضابط البريطاني لورنس العرب تجربته السياسية عقب سقوط الدولة العثمانية، وظهور القومية العربية. وقرأت للتشيكي فرانز كافكا (1883 - 1924) كتابه «رسائل إلى ميلينا» هذا الكتاب مفارق في لغته وفانتازيته التي طبعت روائعه السردية كالمسخ والمحاكمة. في هذا الكتاب، كثير من التقشف اللغوي، والبلاغة التي تتمظهر في حدودها الدنيا، مثلما فعل رامبو في رسائله إلى أخته إيزابيل. وكان لكتاب «أبناء الأيام» لعبقري أوروغواي إدواردو غاليانو، وقت فيه من المتعة والدهشة الشيء الكثير، لا سيما أن العمل ترجمة صالح علماني، والكتاب له معمار فني يختلف عن روائعه الأخرى كأفواه الزمن، وذاكرة النار، والشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية، فهو موزع على اثني عشر فصلاً بعدد شهور السنة، وكل فصل بعدد أيام الشهر ويسرد في كل يوم حكاية.
من الكتب التي أحرص ما استطعت على قراءتها، كتب السير الذاتية، وكان أن وقع بين يدي كتاب «تربية سلامة موسى» لواحد من من أهم رواد التنوير والعقلانية في القرن العشرين، سلامة موسى (1887 - 1958م).
اللافت أن للشاعر والمترجم العراقي عبد القادر الجنابي كتاباً يحمل الاسم نفسه «تربية عبد القادر الجنابي»، وهو سيرة ذاتية أيضاً.
وكانت لكتب الرحلات وقفة مع «رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة»، وتعد من أهم الرحلات في العصور الوسطى، وكانت بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 921م، التي وصلت إلى نهر الفولقا، ويقال إن أقدم وصف لروسيا كان من خلال هذه الرحلة. العمل ملحمة سردية بامتياز، ومحاولة لجر المخيلة إلى أقصاها.
ومن بين الكتب التي استمتعت بها كتاب «ملوك العرب» للمفكر والرحالة متعدد المواهب أمين الريحاني. زار المؤلف في الفترة بين عامي 1922 و1924م، الحجاز ونجد واليمن والبحرين والكويت والعراق، وقدم وصفاً دقيقاً لحياة الناس وطرق عيشهم ولبسهم، والعمران ووسائل النقل، ما يجعل العمل وثيقة مهمة وشهادة على حقبة من تاريخ الجزيرة العربية.

الروائي والقاص السعودي ماجد سليمان: «أساطير من قلب جزيرة العرب»

هناك كتب لا يتوقف عطاؤها بالأعوام الفاصلة بيننا وبين ولادتها، أو بموت أصحابها، فهي تكشف لنا جديداً لم نره في قراءة أولى أو ثانية، سخاء مادتها، وجودة أفكار أصحابها، وتجويدهم في تنظيمها وتبويبها، والسهر والتعب الذي بُذل في كتابتها جليٌّ في سطورها التي تضيء على أمد لا ينقطع.
كل عام أضع جدولاً لقراءة الجديد، وإعادة قراءة ما قرأتُ سلفاً، فالقراءة الواحدة لا تكفي لكتاب جذب النفس إليه، وأضحك السن أو أبكى العين، فكَرَّة واحدة لا تفي وتبني حين ننقل ما أَنِسْنَاهُ لأصدقاء وزملاء، فهناك كتب تشبه رفاق العمر، يسيرون معك حتى النهاية، لا تملهم، ولا تستغني عنهم، كذلك بعض الكتب، تشعر أنها رفيقة عمر، وأنيسة طريق، يصقلها الزمن دائماً لتبقى جديدة.
«أساطير من قلب جزيرة العرب»، رائعة الأديب السعودي عبد الكريم الجهيمان، رحمه الله، قرأتها في زمن مضى، وأعدت قراءتها قبل أشهر، وها أنا أعيد قراءتها مع دخول فصل الشتاء، الذي يُغرينا لقراءة هذا الشكل من الكتب الموزعة على أجزاء. أساطير وقصص وحكايات، بأساليب تميز بها أدبنا الشعبي، أحرق الجهيمان رحمه الله عمراً ليضيء لنا هذا القبس الطويل العريض من السرديات التي انفجرت ينابيعها من عُمقِ الأرض النجدية السخية بكل فتنة، وبرع في رسم ملامح نجد المغرية على شخوص تلك المرويات التي أوجدتها ذاكرة مجتمع قلب الجزيرة العربية، وأخذت تنسج تباعاً حتى عرفت طريقها من الرواية الشفهية إلى التدوين، الذي أغنى به الجهيمان مكتبتنا الأدبية والشعبية.
في هذه الموسوعة، ترى كيف كان يفكر الأوائل، وكيف يحلمون، وكيف يخيطون الأماني لمقبل الزمن، وكيف يَتجاوزون عثراتهم وخيباتهم، ففي هذه الأساطير رأينا حال مجتمعات سبقتنا، جُلهم أهلنا وأجدادنا، ولمسنا أحلامهم في سرد بسيط إلا أنه مغرٍ وثري، وكأنها تُنَبِّهُ المعاصرين أن الحياة لا تحتمل كثيراً من الجدية والشدة.
هذه الموسوعة الشعبية، عمل غير مسبوق في أدبنا المحلي، وفكرة غير مطروقة، وما جاء بعدها، تقليد لها، أو فرع منها، وكما قال المثل الشعبي: الأوَّلات الرّوابح.

الشاعر السعودي علي النحوي:
«لماذا تركت الحصان وحيداً؟»

في خضم اهتمامي الإبداعي كرست قراءاتي هذا العام في الشعر والرواية فعدت لقراءة عدد من الدواوين الشعرية، ولعل أهمها دواوين محمود درويش مثل «لماذا تركت الحصان وحيداً؟»، و«كزهر اللوز أو أبعد»، وديوانا أدونيس «تنبأ أيها الأعمى»، و«أول الجسد آخر البحر»، وبعض الأعمال الشعرية المترجمة كأعمال رامبو.
أما في مجال الرواية فقد قرأت للروائية لينا هويا الحسن «بنات نعش»، و«نازك خانم»، وما شدني لهذه الروائية هو لغتها الشعرية واهتمامها بالصحراء السورية خاصة. ثم كانت لي قراءات فكرية وفلسفية مختلفة أتذكر منها كتاب «العقلانية والمعنوية» لمصطفى مالكيان، وكتاب «الماء والأحلام» لباشلار، وغيرهما من الكتب التي تشكل رصيداً معرفياً يضاف للرصيد الأدبي والفني.

الروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي: رب ضارة نافعة

في بدايات كورونا كانت القراءة مرتجلة متوترة بفعل الوتيرة الجديدة للمرض الذي أرعب العالم، صففت ما اقتنيت من أعمال لم أقرأها من قبل وشرعت بها، لكن مع تسارع الإغلاق وجدت نفسي متقيداً بخطة بدأت عفوية. عدت أقف وأناظر أرفف مكتبتي، ألزمت نفسي بقراءة الكلاسيكيات أو إعادة قراءة ما سبقت لي قراءته منها في زمن بعيد.
عدت لـ«الحوت الأبيض» موبي ديك الذي يطارده القبطان إيهاب مطاردة أسطورية لا تنسى.
«الحرب والسلم» في زمن نابليون كما فسّرها تولستوي والخراب الذي نال موسكو بسببها، آنا كارنينا ماتت مجدداً تحت عجلات القطار، دون كيخوته بترجمة رفعت عطفة يرافق سانشو يطارد أوهاماً صنعتها القراءة في عقله. وعلى السياق نفسه كانت قراءة لأعمال كاملة لكاتب مثل: غابرييل غارسيا ماركيز فقرأت «مائة عام من العزلة»، و«الحب في زمن الكوليرا»، و«قصة موت معلن» التي أراها تختزل أغلب جمال السرد عند ماركيز.
وبعده كان ماريو فارغاس يوسا؛ «قصة مايتا»، «ليتوما في جبال الإنديز»، وملحمته الكبرى «حرب نهاية العالم» التي ماثلت حروبها في الوصف الدقيق والساحر ليوسا ليضعها في مصاف حرب نابليون، رغم شهرة الأخيرة وتواضع حرب كانودوس في البرازيل نهاية القرن التاسع عشر.
تخلل تلك الأسماء روايات حامت مواضيعها حول الأوبئة؛ مثل «العمى» لساراماغو قراءة ثالثة أو رابعة، لكنها كانت جديدة تحت وطأة طاعون العصر المسمى «كورونا» أو «كوفيد - 19»، أتبعتها بطاعون ألبير كامو، وفي كلتا الروايتين كنت متعجباً من تماثل البشر في كل زمان ومكان.
هنالك بعض العناوين الأخرى من الروايات التي قرأت. لكن عندما رأيت الوقت يطول ويطول مع الإغلاق الذي أصاب العالم، قررت الرجوع لكتب «التراث»، للجاحظ، الناثر الأحب لقلبي وعدت لـ«الحيوان»، و«البيان والتبيين»، ورسائله التي حققها عبد السلام هارون.
ورجعت للكتابات التاريخية التي تخص تاريخ الجزيرة العربية قديمها وحديثها، وعدت للشعر خصوصاً مختارات أدونيس التي أسماها ديوان الشعر العربي. لذلك أقول - وآسف على الإطالة: رب ضارة نافعة. بددتُ زمن كورونا بأكبر قدر من المتعة وسط الكتب والقراءة. وأتطلع مع تنهيدة كبيرة، لعام جديد تنتهي فيه «كورونا» أو نتخفف منها قليلاً، ثم أنتقل من القراءة عن الحياة في الكتب إلى ممارستها كما كنت سابقاً. في انتظار تلك اللحظة.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟