سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

عودوا إلى منازلكم

العمل من المنزل ظاهرة سابقة على «كورونا»، وجاءت الجائحة لتعزز وتسرّع. عند حلول الكارثة الصحية كان ثلث الأميركيين يشتغلون من بيوتهم أو متنقلين، متفلتين من قصاص الدوام المكتبي الصارم. والنية كانت تتجه صوب زيادة عدد هؤلاء تدريجياً، فيما الحديث عن دور الروبوتات والتقنيات الرقمية التي ستحل مكان عشرات ملايين الوظائف، خلال سنوات محدودة، يتصاعد، ويتمدد. ونرى أصدقاء لنا يفقدون وظائفهم ولا يستطيعون استبدال أخرى بها. ومما كان ينصح به دائماً، تعلم مهارات جديدة للعودة إلى سوق العمل بمهنة مختلفة، لأن المنافسة لم تعد بين الزملاء أنفسهم بل بين الآلة والموظف، ومَن منهما أكثر مهارة من الآخر.
ما تسببت فيه «كورونا»، هو أنها جعلت هذا الواقع الزاحف تدريجياً، يحلّ في كل بلد وشركة كما لو أنه تسونامي، لا مرد له. من «أبل» و«فيسبوك» و«تويتر» التي ربما لن تعيد موظفيها أبداً إلى مكاتبهم، وصولاً إلى أصغر شركة ناشئة في أبعد ريف هندي، كثيرون اقتنعوا بأن انتقال جحافل الموظفين إلى مكاتبهم بشكل يومي، لم يكن الأسلوب الأذكى لزيادة الإنتاجية، وتحقيق الوفر. واكب موظفو الشركات التكنولوجية الكبرى، هذه التحولات السريعة من منازلهم، وطوروا برامج قديمة وابتكروا أخرى، ولمع نجم تطبيقات كانت تحتاج سنين لتغزو العالم مثل «تيمز» و«زوم» الذي أصبح يساوي 130 مليار دولار، في ظرف شهور.
المشهد ليس كله وردياً، فالانقلاب العالمي الذي يتمفصل مع انهيارات اقتصادية شبه شاملة، وجائحة صحية، هو «أول نكسة كونية للعولمة»، كما يقول جاك أتالي، المنظّر الفرنسي الاقتصادي والاجتماعي المعروف. وهو أيضاً امتحان للنظام الرأسمالي القائم منذ قرون. ليست أزمة عملة أو مال. «إنها أعمق، وأكثر وحشية، وأوسع، وأقوى من كل ما سبقها. وما نراه هو عينة عما سيكون عليه مستقبلنا. هو تسارع وليس انعكاساً لأحداث سابقة نعرفها». هذه المرة نحن أمام انقلاب في النظام البشري. وما العمل من المنازل، سوى أحد المظاهر الصغيرة التي تساعد، إن هي قرئت جيداً، على تصور مدى عجائبية ما سيكون عليه المشهد كله.
رصدت الدراسات رضا كبيراً من قبل أصحاب العمل، عن إنتاجية موظفيهم في البيوت، ورضا مشابهاً من الموظفين أنفسهم. وعرفنا أن نصف هؤلاء، على الأقل سيكملون عملهم من المنازل بعد الجائحة. والنتيجة أن مهناً، وقطاعات بأكملها ستكون متضررة من هذا الخيار، أولها العقارات الفارهة في المباني الفخمة التي كانت تؤوي الشركات الكبرى؛ حيث لم يعد لكل هذه المساحات من ضرورة. لكن هناك أيضاً المطاعم التي تحضر وجبات الغداء، وقطاع النقل العام، وشركات السيارات التي هي مأزومة أصلاً. فحين يتضاءل التنقل يتغير السلوك البشري برمته، وتتبدل حاجات الإنسان، ولن يكون شراء البدلات الرسمية والكرافتات والقمصان، أو الملابس النسائية، بالكم الهائل الذي عرفته السنوات الخمسون الأخيرة. حتى يقال بأن صناعة النسيج هي الأكثر عرضة، على الإطلاق، للإفلاس.
أكثر من ذلك تقرير لـ«نيويورك تايمز»، يذكر أن الموظفين الذين انتهزوا فرصة العمل عن بُعد، وغادروا البلدان التي يعملون فيها للانضمام إلى عائلاتهم، أو للسكن في مكان أقل تكلفة، ليسوا بقلة. واستغلت دول تعيش نكسة سياحية الفرصة، وعرضت إقامات طويلة لهؤلاء الراغبين في الانتقال إلى مكان أجمل أو أكثر أمناً. ولكل خياره وهواه ومزاجه. وبين هذه الوجهات، إستونيا وجورجيا وباربادوس وبرمودا. تكاليف تذاكر المترو أو السيارة، تساوي أحياناً تذكرة السفر إلى الوجهة المختارة، فيما الإقامة قد تكون أوفر وأمتع.
مقابل الفرص الضائعة، والأعمال المفقودة، ثمة أخرى تولد. وتزدهر، مثل أعمال الدليفري، وبيع الكومبيوترات، والهواتف والبرمجيات، والتجارة أونلاين، والوظائف الصديقة للبيئة والبيانات، وتطوير المنتجات. والأهم صناعة الأثاث حيث سيتوجب تجهيز أماكن جديدة في كل مرة لتصلح للعيش والعمل معاً.
ليس من الصعب تخيل أن التوظيف عن بُعد يعني أيضاً، اختيار الأذكى، أياً كانت جنسيته ومكان إقامته، طالما أن المسافة لم تعد شيئاً يذكر، وهذا سيجعل المنافسة أدهى وأعقد.
الانقلابات الكونية، مجال مثير للبحث والاستشراف، والمنغمسون في الفهم والتحليل يتبارون في تشخيص الداء، وتكوين رؤية حول أفضل وسيلة لمقاربة الغد. وأحد هؤلاء الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران الذي يحتفل العام المقبل بمئويته. وهو بعد أن عاش الحرب الثانية والحرب الباردة وصعود آيديولوجيات وموتها أصدر دراسة تأملية مؤخراً سماها «دعونا نغير الطريق»، يرى فيها أننا أمام بزوغ عالم جديد على أنقاض نموذج الحداثة الذي ولد في القرن السادس عشر. والتبدلات لا تحدث بسلاسة بل تتم «في ظل الألم والفوضى... فيما النقلة النوعية ستكون طويلة وصعبة، وهي تواجه مقاومة هائلة من الهياكل والعقليات الراسخة. إنها عملية تاريخية ومعقدة، ولا مجال لتذليل عقباتها إلا بالوعي الشديد».
حسناً، إنه حقاً لوضع مركب، لم يسبق للبشرية أن واجهت شبيهاً له، ونحن في هذه المنطقة، لا يبدو أننا نسهم في التفكير وتصور المستقبل، مع الأرقين والمستشرفين والمتحفزين. لم نكن جزءاً فاعلاً من النظام الحداثي السابق، لكننا، على الأقل، جربنا وفشلنا، فلم نعلن موتنا المبكر هذه المرة، من دون حتى أن نخوض شرف المحاولة!