حياتي عن بُعد

جائحة كورونا فرضت نمطاً حياتياً غير معتاد علينا كبشر، فقد فرضت التباعد، وفرضت قضاء مصالحنا عبر الحاسب وكذلك إنجاز أعمالنا عبر الحاسب. وكمراقب رأيت من يعملون عن بعد ورغم المردود الاقتصادي الهائل للعمل عن بعد سواء لرب العمل أو العامل إلا أن هناك مدراءً لم يتفهموا معنى العمل عن بعد، فتراهم يخرجون دراسات قديمة من أدراجهم ويطلبون من العاملين لديهم تحديثها وهم يعلمون أنهم لن يستفيدوا من هذا التحديث، ولكنهم يريدون أن لا يتركوا فراغاً لدى موظفيهم.
هذا يجعل الموظف مشتتاً بين عمله الأساسي وبين ما يطلب منه من أعمال يعرف هو أي الموظف قبل غيره أن لا فائدة منها ولكن هدفها الوحيد هو إشغاله وملء وقته سواء بما يفيد أو بما لا يفيد.
في المقابل نرى أن هناك كثيراً من الأعمال أصبحت تدار عن بعد وستستمر تدار عن بعد وأنجح نموذج تعاملت معه في السعودية منتجات أو مخرجات وزارة العدل السعودية التي أصبحت تدار إلكترونيا بدءاً من استخرج الصكوك العقارية وانتهاء بالتقاضي وعقد الجلسات عبر الفضاء الإلكتروني فلم يعد المتقاضون بحاجة للحضور لدى القاضي وقد يكون كل طرف من أطراف القضية في مدينة ومع ذلك تنجز القضية وقد يكون المدعي في الرياض والمدعى عليه في جدة والشهود في الخبر والمحامون في أبها ومع ذلك تنجز القضية عبر الفضاء الافتراضي.
ويحسب لمعالي وزير العدل السعودي الأستاذ وليد الصمعاني حرصه على دفع عجلة العمل الإلكتروني في وزارة العدل لدرجة أذهلت المستفيدين من خدمات وزارته، بدءاً من إصدار الوكالات وانتهاء عند المرافعات، أعتقد أن الدنيا بأسرها تتجه لتسهيل الحياة عن بعد ولكن الجائحة سرعت بهذا العمل ذي المردود الاقتصادي الهائل، وقد تعاملت مع منتجات وزارة العدل بدءاً من الوكالة وانتهاء باستخراج صك بيتي الصغير ووجدتها ناجحة بكل المقاييس.
وحينما أذكر ذلك لا يعني أننا قطعنا شوطاً بعيداً في مكننة الأعمال فلدينا موظفون لم يعرفوا كيف يتعاملون مع البشر عن بعد.
فحينما أردت استخراج صك منزلي اضطررت للتعامل مع إحدى البلديات ودفعت لهم رسوم استخراج قرار مساحي يوضح مساحة البيت ومدى مطابقتها لصك الأرض، وأذكر أنني اتصلت على أحد مدراء هذه البلدية لإنهاء معاملتي فكان همه أن يعرف من زودني برقمه، لن أسترسل في هذا فلكل قارئ تجربة مع موظف بيروقراطي.
ورغم مرارة تجربتي مع البلديات إلا أن هناك نماذج مشرقة عرفت كيف تتعامل مع الجائحة وتستفيد من التقدم التقني، وعلى رأس هؤلاء مستشفى الملك خالد الجامعي فقد تعرضت زوجتي لأزمة صحية حادة باختصار أصيبت بالسرطان وكان دور الأطباء أكثر من رائع حيث زودونا بهواتفهم وهو أمر غير معتاد لأن الأطباء يتحفظون على أرقام هواتفهم الخاصة خشية الإزعاج وهم محقون في ذلك.
قد يقول قائل الحالة الإنسانية التي مررت بها تستدعي التعاطف هذا صحيح لكن أخبركم أن لي ملفا طبيا في هذا المستشفى ولدي كشف طبي روتيني كل ستة أشهر، مع الجائحة تجاهلت كل شيء ولم أشعر ذات يوم إلا وهاتفي يرن وإذا هو الدكتور ريتشارد وهو من الفلبين يحدد لي موعداً للتحليل ويخبرني أنه سيعلمني بالنتيجة عبر الهاتف دون الحاجة أن أذهب إليه في المستشفى، هذه بعض النماذج التي حاولت العمل عن بعد وبعضها نجح والبعض أخفق.
لكن الحياة ستستمر عن بعد ولن تقف ومن أراد أن يستمر في الحياة فعليه أن يركب قطار التقنية وإلا فسوف يموت. ودمتم