إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

حديث الروح

كانوا مسرنمين، سائرين في نومهم، يتحركون ببطء مثل المسحورين. هكذا بدوا لي وهم يجتازون، مكممين، عتبة متحف «مايول» في باريس. نحن في الزمن الوبائي والمدينة هادئة والصيفية في آخر أيامها، فماذا يجري وراء هذه البوابة؟ قلت لنفسي لأتسرنم وأتبعهم. فالمعرض ذو اسم مثير: «أنت هنا أيتها الروح؟».
القاعات مبردة بشكل كاف والنور خافت. وهناك، على الجدران القاتمة، لوحات لبضعة رسامين ورسامات من القرن التاسع عشر، لا تشبه تلك التي تركها لنا فنانو زمانهم. هم لم يرسموا ملوكهم ذوي الكروش الناشئة ولا الأميرات ذوات الوجنات الوردية. حتى الطبيعة لم تلفت انتباههم في بذخها الملون. كانوا يسعون لاستشفاف ما وراء الأجساد والأشجار.
يخبرك الدليل المطبوع طباعة فاخرة أن الشغف بتحضير الأرواح هو ما يجمع بين رسامي هذا المعرض. وها هي نفسي تصفّق جذلاً. أليست كتابة الروايات هي فن استحضار الأرواح وتقمّص الشخصيات الهائمة في الغياهب؟
يتحرك الزوار مثل أشباح خرساء من دون صوت ولا همهمة أو حتى كحكحة. ترمي الإبرة فتسمع صداها. الكل يبحث عن روح تائهة قد تحلّ عليه من منعطف ما، أو تتلبّسه في غفلة من حراس المتحف. يقول الدليل إنها بدعة وصلت إلى أوروبا من أميركا. يا للمفارقة، متى كانت الولايات المتحدة مهتمة بتصدير الغيبيات؟ هي تراث شرقي نملك حقوقه الأدبية والمادية منذ سابق العصر والأوان. لكن القائمين على هذا المعرض يقلبون الحقائق ويبتدعون للأرواح المستحضرة تاريخاً حديثاً. يزعمون أنها ظهرت للمرة الأولى في نيويورك عام 1848. في منزل أسرة فوكس. بيت مسكون تُسمع في أرجائه دقات غريبة. طرقات على السلالم والسقوف، تحولت إلى وسيلة للتخاطب مع شبح مقيم في المكان. تجتمع الأسرة حول طاولة خشبية وتستحضر روح جدّ راحل. تطرح عليه أسئلة ويرد بطرقات من أرجل الطاولة: الطرقة الواحدة تقابل الحرف الأول من الأبجدية، والطرقتان للحرف الثاني، وهكذا دواليك.
وصلت البدعة إلى باريس واستوطنت رأس الأديب فيكتور هوغو. كان منهاراً بعد غرق ابنته الحبيبة ليوبولدين، ومقهوراً من حكم نابليون الثالث، فنفى نفسه إلى جزيرة «جيرزي» البريطانية. ولم يكن هوغو من ذوي النفوس الهشة. لكنه انساق وراء الرغبة في الاتصال بابنته الراحلة. أراد أن يخاطبها وأن يكون الناطق باسم «أفواه الظل». كتب إلى ليوبولدين: «يمكنك أن تملأي قبرك قيامات. ستقولين عند موتك: أيقظني في 1920. أيقظني في 1960. أيقظني في عام 2000». نحن في 2020. وكان انتظار هوغو قد طال وذهبت روحه لملاقاة ابنته.
تشبه لوحات المعرض خرائط للمجرات، أو زخارف لفراديس قصيّة. لعلها منازل النفوس المعذبة التي وصفها جبران بـ«الأرواح المتمردة». نشرت له جريدة «المهاجر» لصاحبها أمين الغريّب مجموعة قصصية بهذا العنوان. صدرت في نيويورك عام 1908. أهداها إلى الروح التي عانقت روحه والقلب الذي سكب أسراره في قلبه واليد التي أوقدت شعلة عواطفه.
تلقي الإبرة فتسمع صداها. والزوار مسرنمون واللوحات تطلق أخيلة شتى. لكن الروح المتمردة كانت تضجّ بسؤال حارق من «حديث الروح». تحضر روح أم كلثوم وأسمع صوتها: «شكواي أم نجواي في هذا الدجى ونجوم ليلي حُسّدي أم عوّدي». قصيدة كتبها الشاعر الهندي محمد إقبال وترجمها الشيخ الصاوي شعلان ولحنها السنباطي. غنتها الست على مسرح قصر النيل في القاهرة. كان ذلك في عام 1967. قبيل شهر واحد من نكسة ما زالت أشباحها تؤرقنا.