«حكومة الرئيس» تعيد رسم الحسابات في تونس

أول تشكيلة وزارية من دون أحزاب أو «ثوريين»

«حكومة الرئيس» تعيد رسم الحسابات في تونس
TT

«حكومة الرئيس» تعيد رسم الحسابات في تونس

«حكومة الرئيس» تعيد رسم الحسابات في تونس

نجح الرئيس التونسي قيس سعيّد والمقربون منه في خلط المشهد السياسي والمساهمة في تغييره بقوة لصالحهم، وكذلك استبعاد كل الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية و«الثوريين»، عند اختيار رئيس الحكومة الجديد هشام المشيشي وفريقه. وفي حين اعتبرت بعض قيادات الأحزاب هذه الخطوة «انقلاباً على البرلمان (مجلس النواب) والشرعية الانتخابية»، اعتبر كثير من المراقبين أن حكومة «الكفاءات المستقلة»، برئاسة وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة، ستكون حقاً «حكومة الرئيس»، رغم أنه لا وجود هذه التسمية في الدستور والقانون.
وإذ تباينت ردود الفعل على التشكيلة الوزارية المعلنة، التي ضمّت شخصيات من المقرّبين من الرئيس سعيّد ومستشاريه في قصر قرطاج، فإن كل المؤشرات ترجح أن يمنحها البرلمان الثقة كي يتجنب «سيناريو» حلّه، والدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة.
ويبقى أن التحدي الكبير اليوم هو: هل ستنجح هذه الحكومة في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والإقلاع الاقتصادي... أم يحصل العكس فتفشل بسبب افتقارها لحزام برلماني وحزبي يدعمها واستفحال الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية؟
كشفت تصريحات غالبية قيادات الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية التونسية ورود فعلها الأولية انتقادات بالجملة لتشكيلة حكومة هشام المشيشي الجديدة. واعتبرت غالبية هذه القيادات الحكومة «تابعة لقيس سعيّد ومستشاريه»، وانتقدت ما وصفته بـ«تضخّم دور قصر قرطاج (الرئاسي)»، في بلد اختار منذ المصادقة على دستور يناير (كانون الثاني) 2014 «النظام البرلماني المعدل». أيضاً رأت هذه القيادات أن «النظام الرئاسي» سيؤدي بالضرورة إلى الحكم الفردي والاستبداد والقمع، على غرار ما حصل في تونس إبان عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بين 1957 ونهاية 2010.
- حملة ضد قصري قرطاج والقصبة
في سياق متصل، شنّ العديد من مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً حملة إعلامية عنيفة ضد سعيّد والمشيشي بسبب «إصرارهما على استبعاد» مرشحي قيادات الأحزاب والكتل البرلمانية من التشكيلة الجديدة، ومسايرة التقييمات السائدة عن اتهام قيادات بعض الأحزاب بالفساد ونقص الخبرة والكفاءة. فقد اتهم قياديون من أحزاب «التيار الديمقراطي» و«الشعب» و«حركة النهضة» و«ائتلاف الكرامة» مقرّبين من قيس سعيد بـ«تجاهل نتائج الانتخابات البرلمانية» و«الانقلاب على إرادة ملايين الناخبين».
وتوقّع الكاتب عبد اللطيف العلوي، النائب عن «ائتلاف الكرامة»، الفشل لهذه التشكيلة الحكومية في حال فوزها بالثقة «مؤقتاً». في حين وصف زعيم حزب «الشعب» القومي زهير المغزاوي التشكيلة التي أقصت الأحزاب بـ«حكومة الخوف»، قاصداً أنها الحكومة التي سيصادق عليها النواب «خوفاً من حل البرلمان وإحداث فراغ سياسي كبير على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية».
كذلك، أخذ نواب وساسة آخرون على التشكيلة تأكيدها تجاهل كل من سعيّد والمشيشي قيادات الأحزاب والكتل البرلمانية التي عُقدت معها عدة «جلسات تشاور صورية» طوال الأسابيع الماضية. وهو ما قاله هشام العجبوني رئيس كتلة حزب «التيار الديمقراطي» اليساري في البرلمان، والصادق جبنون الناطق الرسمي باسم حزب «قلب تونس»، ومحمد القوماني البرلماني وعضو المكتب السياسي لحزب «حركة النهضة».
أيضاً اتهم بعض الساسة، بينهم سيد الفرجاني، عضو البرلمان عن «حركة النهضة»، الرئيس قيس سعيّد ومستشاريه في قصر قرطاج بتعيين مزيد من زملائهم السابقين في الجامعة وفي كليات الحقوق على رأس عدة وزارات، فكانت الحصيلة الأولية «انقلاباً على البرلمان وعلى الحياة الحزبية، وإسناد نحو ثلث الحقائب الحكومية إلى خبراء قانون وشخصيات، بعضهم كانوا من بين طلبة سعيّد وزملائه في أسرة التدريس والبحث في الجامعة».
- احترام الدستور
غير أن مقرّبين من الرئيس قيس سعيّد ومناصرين لتشكيلة حكومة هشام المشيشي، رفضوا هذه الاتهامات، ونوّهوا بكفاءة جلّ أعضائها وبـ«حرص رئيس الجمهورية على احترام نص الدستور، في الوقت الذي أراد فيه تدارك الثغرات التي برزت العام الماضي بسبب الصراعات الهامشية بين الأحزاب داخل البرلمان والحكومة»، على حد تعبير نوفل سعيّد المحامي والخبير الدولي في القانون الدستوري وشقيق الرئيس التونسي في تصريح لـ«الشرق الأوسط».
أيضاً، أثنى أمين محفوظ، أستاذ القانون الدستوري، على اختيار المشيشي غالبية الوزراء من بين المستقلين عن كل الأحزاب، وبممارسة رئيس الجمهورية حقه في اختيار وزيري الخارجية والدفاع، وفي إعطاء رأي بكامل التشكيلة، قبل توجيه مراسلته إلى البرلمان للمصادقة عليها.
ورفض الأميرال المتقاعد محمد المؤدب، المدير العام السابق للأمن العسكري وللقمارق (الجمرك)، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن يعني تعيين «كفاءات مستقلة في الحكومة الجديدة ترذيلاً للأحزاب وللانتخابات». وتابع المؤدب أن البلاد في حاجة فورية إلى «هدنة سياسية وأمنية واجتماعية، لإعادة هيبة الدولة، وفرض تطبيق القانون في كامل البلاد، ومنع تعطيل إنتاج (الفوسفاط) والمحروقات والسير العادي لمؤسسات الإنتاج والتصدير والخدمات العمومية».
وفي الاتجاه نفسه، نوه الأميرال كمال العكروت، المستشار العسكري والأمني السابق للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بـ«انحياز» سعيّد والمشيشي «إلى الكفاءات المستقلة بعدما فشلت الأحزاب والنخب السياسية التقليدية في إنقاذ البلاد من أزماتها المتراكمة منذ 10 سنوات».
- حكومة الفرصة الأخيرة؟
من جهة ثانية، رأى عدد من المراقبين والخبراء عن أن الحكومة الجديدة قد تكون «حكومة الفرصة الأخيرة»، لأن رئيسها وعدداً كبيراً من أعضائها من خريجي كليات القانون والمدرسة العليا للإدارة، ولديهم خبرة في الوظيفة العمومية. وحول هذه النقطة رحب الأكاديمي والديلوماسي سعيد بحيرة باختيار «شخصيات لها وزنها ورصيدها في الإدارة والبحث العلمي والمؤسسات الاقتصادية الوطنية والدولية»، بينهم فتحي السلاوتي الذي أُسندت له حقيبة التربية، وألفة بن عودة التي أسندت إليها حقيبة التعليم العالي، ومعزّ شقشوق الذي أُسندت إليه حقيبة النقل واللوجيستيات، والحبيب عمار الذي أسندت إليه حقيبة السياحة.
كذلك، رحب الكاتب والإعلامي أحمد القابسي بإرجاع الزعيم النقابي محمد الطرابلسي إلى حقيبة الشؤون الاجتماعية «التي سيّرها بنجاح طوال 3 سنوات ونصف السنة»، واستفاد من رصيده النقابي ومن علاقاته مع أعضاء المركزية النقابية العمالية، التي كان عضواً فيها قبل «ثورة 2011»، ومع قيادات نقابات رجال الأعمال الصناعيين والتجار والفلاحين. ولقد كشف قرار إرجاع النقابي الطرابلسي إلى الحكومة - التي غادرها في مارس (آذار) الماضي عند تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ - رهاناً جديداً من سعيّد والمشيشي على «التحالف بين بين المركزية النقابية العمالية ورئيس الجمهورية والمقرّبين منه في قصري قرطاج والقصبة، رداً على الانتقادات التي وجهها إليه قياديون في (النهضة) والبرلمان».
- نَفَس جديد للعلاقات الدولية
أما على صعيد العلاقات الخارجية، فقد رحّب عدد من المراقبين والدبلوماسيين بالشخصيات التي اختيرت على رأس وزارات السيادة في الحكومة الجديدة، وبالأخص، تعيين عثمان الجارندي، المستشار الدبلوماسي في قصر قرطاج ووزير الخارجية المستقل عن كل الأحزاب مجدداً على رأس الديلوماسية التونسية، وهو الذي سبق له أن أشرف عليها في 2013 بعد خبرة طويلة في عدد من سفارات تونس في الخارج. وكذلك تعيين محمد علي النفطي كاتب دولة للخارجية - وكيل وزير - وهو سفير ودبلوماسي له خبرة في عدة عواصم عربية وآسيوية وأوروبية، وسبق أن أشرف على عدة إدارات عامة في الخارجية من بينها الشؤون القنصلية والعلاقات الدولية.
وتوقع وزير الخارجية السابق أحمد ونيس في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن يثمر هذان التعيينان وبحقّ للحكومة الجديدة نقلة نوعية في علاقات تونس الخارجية، لأن الوزير ونائبه دبلوماسيان ناجحان معروفان. ولأنه سبق لوزير الخارجية الجديد تولي منصب المستشار الدبلوماسي للرئيس سعيّد خلال الأشهر الماضية. أي أنه يحظى بثقته خلافاً لوزير الخارجية السابق، وهو ما يمكنه من «التحرك بسرعة لتدارك بعض الثغرات، وبينها توظيف علاقات تونس الخارجية في خدمة مصالح البلاد الاقتصادية، والتعجيل بتسمية سفراء جدد في عواصم عدة مهمة لم يُعيَّن فيها سفير منذ مدة، من بينها باريس وبروكسل والرياض».
- ماذا عن الاستقلالية؟
في هذه الأثناء، يطرح مراقبون، منهم زياد كريشان رئيس تحرير صحيفة «المغرب» اليومية، علامات استفهام على «استقلالية بعض الوزراء»، ومن ثم، فرص نجاحهم في مهماتهم، ومن هؤلاء الوزراء المحامي توفيق شرف الدين الذي عُيّن وزيراً للداخلية، والقاضي محمد بوستة الذي عُيّن وزيراً للعدل، وأستاذ القانون إبراهيم البرتاجي الذي عُيّن وزيراً للدفاع. وتساءل البعض، بصفة خاصة، عن مدى استقلالية وزير الداخلية الجديد توفيق شرف الدين «بسبب تزعمه فريق حملة مساندة قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية الماضية في محافظة سوسة على الساحل التونسي»، كما جاء على لسان الإعلامية منية العرفاوي.
كما انتقد معارضون سياسيون مثل المنذر ثابت «تسمية مزيد من خبراء القانون وخريجي كليات الحقوق في الحكومة الجديدة، ما قد يجعل من رئيس الحكومة مجرّد وزير أول لدى رئيس الدولة، بينما يُفترض أنه يتمتع بـ90 في المائة من صلاحيات السلطة التنفيذية».
أما محسن مرزوق، رئيس حزب «مشروع تونس» اليساري والوزير المستشار سابقاً في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي، فانتقد ما وصفه بـ«غياب الاستقرار في قمة وزارات السيادة، وخاصة في حقيبتي الخارجية والدفاع، رغم أن رئيس الجمهورية كان قد اختار الوزراء السابقين في حكومة إلياس الفخفاح مطلع العام الحالي».
- أقطاب وأقليات؟
مع كل ما سبق ذكره، ثمة مَن هو مقتنع بأن نقطة «القوة الأساسية في حكومة الرئيس الجديدة» أن رئيسها هشام المشيشي وغالبية وزرائها اختارهم الرئيس سعيّد والمقرّبون منه، خلافاً لحكومة الفخفاح الذي اختاره رئيس الجمهورية، لكنه سمح له بأن يعين الوزراء بالتشاور مع قيادات الأحزاب والبرلمان. في الاتجاه المقابل، يرى متابعون وذوو علاقة، مثل وزير الشؤون الاجتماعية العائد محمد الطرابلسي أن «من بين نقاط القوة في الحكومة الجديدة اعتماد سياسة الأقطاب الحكومية، وذلك عبر تجميع عدة وزارات في وزارة واحدة من بينها وزارة تشرف على أبرز الوزارات الاقتصادية والمالية، ولقد أسندت إلى رجل الأعمال والمسؤول البنكي الدولي علي الكعلي، الذي سبق له أن تولى مسؤوليات على رأس بنوك عربية ودولية في الخليج».
- السند السياسي والبرلماني
في مطلق الأحوال، وبصرف النظر عن المتفائلين بـ«حكومة الرئيس الثانية» والمتحفّظين عن «تضخّم دور مؤسسة رئاسة الجمهورية على حساب دور البرلمان والأحزاب» يُتوقع أن تواجه حكومة هشام المشيشي تحديات بالجملة، لعل أهمها حاجتها إلى دعم سياسي برلماني لضمان تمرير مشاريع القوانين والموازنة.
البعض يقلل من أهمية هذه التحديات، ويتوقع أن يستخدم الرئيس سعيّد صلاحيات منحها له الدستور، من بينها تفعيل «الفصل 80»، الذي يوسّع صلاحياته على حساب رئيس الحكومة ويسمح له باستصدار مراسيم لا توحد ضرورة لعرض على البرلمان في وقت لاحق بحجة «وجود البلاد أمام خطر داهم وفي حالة طوارئ».
وعلى الضفة الأخرى، لا يستبعد نفر من المعارضين، مثل عياض اللومي، رئيس لجنة المالية في البرلمان والقيادي في حزب «قلب تونس»، أن يمنح البرلمان الثقة للحكومة الجديدة ثم يسقطها بعد مدة وجيزة، عبر «لائحة سحب ثقة يوقعها 109 نواب أو أكثر، مع تعيين خليفة له من قبل البرلمان في اليوم نفسه». وبالتالي، فإن كل السيناريوهات واردة.
- مبادرات سياسية لإنقاذ «حكومة الخوف»؟
> حذّرت غالبية الأحزاب والكتل البرلمانية التونسية مبدئياً من إقصائها، ومن عواقب جعل البرلمان مجبراً على أن يصادق على «حكومة الخوف»، أي على تشكيلة وزارية لا يرحب بها ولا يوافق عليها، ليرى أنه سيُضطَر إلى تمريرها بسبب تخوف غالبية النواب والأحزاب على مواقعها، إذا ما قرر رئيس الجمهورية حل البرلمان.
مع هذا، انطلق ساسة بارزون من معظم الأحزاب في الدعوة إلى «مبادرات سياسية» تهدف إلى المصادقة على «حكومة الخوف» بشروط، مع اقتراح عدة آليات لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتأزمة في تونس. وفي هذا السياق، رحّب عدد من قادة الأحزاب السياسية بينهم وزير الصحة السابق والقيادي في حزب «حركة النهضة»، عبد اللطيف المكّي، بمبادرة سياسية أطلقها زهير المغزاوي، الأمين العام لحزب «الشعب»، الذي أعلن أن نواب حزبه سيمنحون الثقة لحكومة المشيشي الجديدة، رغم انتقاداتهم السابقة له.
ومن بين ما جاء في وثيقة المبادرة التي تقدم بها حزب «الشعب» في تشخيص الوضع العام:
* أولاً، يوجد تباين واضح بين الفاعلين السياسيين بشأن الموقف من حكومة هشام المشيشي، مع التأكيد على وجاهة الحجج التي تقدّمها الأطراف المتباينة ومعقوليتها، فضلاً عن كون هذه الأطراف على اختلاف مقارباتها غير مطمئنة لمآلات الأوضاع، سواء حازت الحكومة ثقة البرلمان أم لم تحز:
- الداعمون: ليست لديهم ضمانات لاستمرار الحكومة أو نجاحها في إنجاز المهام المنتظرة منها أو تمرير مشاريع القوانين التي ستقترحها، إضافة إلى الخِشية من عدم التزام هشام المشيشي بتعهداته والتمسّك بالسلطة دون تحقيق أي إنجاز.
- الرافضون: ليست لديهم ضمانات حول مصير الوضع السياسي ومستقبل مجلس النواب في حال سقوط حكومة السيّد المشيشي.
* ثانياً: هناك أزمة اقتصاديّة وماليّة تزداد عمقاً وتشعّباً، وتُنذِر بالتحوّل إلى أزمة اجتماعية وأمنية لا قِبل لأحدٍ بمواجهتها، فضلاً عن التعقيدات والصعوبات الناجمة عن عودة انتشار فيروس «كورونا».
وعلى هذا الأساس اقترحت وثيقة المبادرة السياسية، بالخصوص:
* دعوة الفاعلين السياسيين إلى التوافق على منح الثِّقة للحكومة وفق الضّوابط التّالية:
- التزام رئيس الحكومة المـُكَلَّف بتقديم تصوّر واضح يضبط الإجراءات الكفيلة بوقف النّزيف الاقتصادي والمالي والاجتماعي، والتزامه كذلك بتسقيف عمل حكومته في أجل أقصاه سنة ونصف السنة يُصَار خلالها إلى التوافق بين الكتل البرلمانية على تركيز المحكمة الدستورية وتعديل النظام الانتخابي، لأن التقليد المعمول به في كل دول العالم أن حكومات الكفاءات تُشَكَّل استثناءً ضمن النّظم الديمقراطية التي تكون فيها الأحزاب السياسيّة هي رافعة الحكومات، ولا يحدث الاستثناء إلاّ في حالات الأزمات السياسيّة والاقتصادية، وتزول الحاجة لمثل هذه الحكومة مع بداية التعافي من الأزمة.
- التزام كل الأطراف بتنفيذ هدنة سياسيّة واجتماعيّة ومجتمعيّة إذا تم القبول بالإجراءات المـُعلَنة. وفي نهاية هذه الفترة يتم التوافق بين الأطراف السياسية على أحد الخيارات التالية:
1 - استمرار حكومة السيد المشيشي إلى نهاية العهدة البرلمانية، وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها الدستوري خريف 2024.
2 - في صورة تعثر حكومة المشيشي يمكن تكوين أغلبية برلمانية تتولى تشكيل حكومة سياسية، والذهاب مباشرة إلى تنظيم انتخاباتٍ تشريعيّة سابقة لأوانها.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.