سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

هذه القضية التي صارت من شواغل الناس!

بلغت الخصومة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتيدروس أدهانوم مدير منظمة الصحة العالمية، إلى حد أن الإدارة الحالية في العاصمة الأميركية لم تجد أي حرج في أن تقول علناً، إن الصين اشترت مدير المنظمة في ملف فيروس «كورونا»!
وبالطبع فإن أدهانوم قد نفى التهمة، التي تظل مجرد تهمة إلى أن يقوم عليها برهان، فيصبح الرجل مداناً عند ذلك بالدليل!
وقد كان هذا الاتهام جزءاً من معركة أكبر تخوضها إدارة ترمب مع المنظمة عموماً، وليس مع مديرها فقط، وهي معركة وصلت في أبعادها إلى الدرجة التي أغرت الرئيس الأميركي بالإعلان عن انسحاب بلاده من عضوية المنظمة، ثم التوقف عن دفع نصيب الولايات المتحدة في ميزانيتها!
وهذه المعركة بدورها هي وجه من وجوه حرب اقتصادية أشمل بين الإدارة الأميركية والصين، وإذا كانت الحرب قد امتدت في مرحلة من مراحلها إلى مستوى منظمة الصحة العالمية، فلم تكن هذه الأخيرة سوى أداة من أدوات إدارة الحرب بين الطرفين الأميركي والصيني!
ولكن قضية كهذه تبقى في التقييم الأخير من بين شواغل الحكومتين في واشنطن وفي بكين، أكثر من كونها قضية تشغل آحاد الناس حول العالم ممن تضرروا من تداعيات الفيروس، ووجدوا فيه خصماً من رصيد قدرتهم على الحركة والتنقل والسفر، أما المعنى فهو أن الخصم الذي جرى إنما هو من رصيد الحرية المتبقي لدى الإنسان في زمن ما بعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001!
غير أن قضية أخرى في الموضوع نفسه صارت من شواغل آحاد الناس، وأصبحت من بين دواعي القلق الذي يساورهم في كل صباح!
هذه القضية الأخرى هي اللهجة اللافتة التي يتحدث بها أدهانوم عن «كورونا»، وعن مستقبله، وعن احتمالات التوصل إلى لقاح يريح العالم من عناءين اثنين: عناء شهور من البقاء في أَسْر الوباء، ثم عناء التعايش معه منذ أن بدأت قبضته تخفّ قليلاً عن رقاب الناس!
اللهجة التي يتعرض بها مدير الصحة العالمية للوباء، تضاعف من مخاوف البشر، أكثر بكثير مما تهدئ من روعهم، وتنشر الفزع في القلوب أكثر مما تطمئن سكان الأرض في كل مكان. لا أقول إن عليه أن ينافقنا، أو يعطينا الأمل الكاذب، ولكن أقول إن عليه أن يخفف ولو قليلاً من حالة الفزع التي صاحبت بدء ظهور «كورونا»، ثم لازمت انتشاره سريعاً من أرض إلى أرض كأنه حريق شب في غابة!
وهل هناك أكثر من أن يصرح أدهانوم هذا الأسبوع بأنه لا توجد نهاية تبدو في آخر النفق للفيروس، وأن آثاره المحسوسة مرشحة للاستمرار معنا عقوداً من الزمان؟!
إن علينا أن نتخيل إحساس أي مواطن عادي في أي دولة، إذا ما طالع مثل هذا الحديث المتشائم على لسان الرجل الجالس على أكبر منظمة معنية بالصحة على ظهر الكوكب، ثم إن علينا أن نتصور الحالة النفسية التي سيكون عليها كل إنسان يعيش في كوكبنا، وينتظر من مدير منظمة الصحة العالمية، أن يتحدث بلهجة متفائلة، أو حتى داعية إلى التفاؤل مهما كانت وطأة «كورونا» التي يراها أمامه!
لا أقول مرة ثانية إن عليه أن يخدعنا، ولا أن يبيع لنا الأوهام، ولا أن يجعلنا نحيا في عالم من الخيال، ولا أن يأخذنا إلى مساحات من السراب، ولكنّ هناك فرقاً بين أن تكون هذه هي لهجته المعتمدة منذ بدء حلول هذا الضيف الثقيل علينا أول هذه السنة، وبين أن نتوقع منه أن يعلن عن ضرورة انتصار العالم في معركته مع الوباء، ثم لا يذهب مع ما نتوقعه ولو لخطوة واحدة. إن ألف باء كسب المعركة مع المرض، أي مرض وليس بالضرورة هذا المرض، إنما هي الحالة النفسية القوية التي تمنح المريض مناعة في المواجهة وفي الصمود بل حتى في البقاء!
لكنّ الحاصل كان، ولا يزال، على النقيض من ذلك على طول الخط، رغم أن أدهانوم طبيب، ورغم أن الطبيب بحكم دراسته هو أدرى الناس بموقع الحالة النفسية على خريطة المريض في معركته مع أي مرض يدخل في مواجهة معه، فضلاً بالطبع عن أن تكون المواجهة مع وباء اجتاح عالمنا بسرعة غير متوقعة، وصار كسب المعركة معه مسألة نفسية أكثر منها أي شيء آخر!
وليس سراً أن الفكرة في الملف كله لم تعد في الفيروس ذاته، ولكنها أصبحت هي حالة الخوف، وبمعنى أدق حالة التخويف التي شاعت وسادت بين الناس على اختلاف أماكنهم، والتي وقع العالم في أسرها كما يقع الطائر في شبكة الصياد، فلا يعرف كيف يغادرها ولا كيف يتخلص منها!
ورغم أن حالة كهذه في حاجة إلى معجزة من السماء، لعل العالم يعود إلى حياته الطبيعية، فإننا ما كدنا نفيق من حديث مدير المنظمة عن عدم وجود نهاية في آخر النفق، وعن الآثار المحسوسة الموجودة معنا لعقود من الزمان، حتى صحونا في اليوم التالي على حديثه عن أن الوباء ربما يرافقنا إلى الأبد، وعن أن الأطباء ربما لا يصلون إلى حل معه ولا إلى لقاح!
لقد قرأت كلام الرجل مرتين وثلاثاً، لأتأكد أولاً من المعاني في عباراته، ثم أتأكد من أن صاحبها هو فلان الذي نراهن عليه في الفوز في معركة هي معركة بقاء بالنسبة للإنسان!
وليس هناك شك في أن الدور الأكبر في الفوز فيها، يقع بالأساس على نفسية كل إنسان يشعر بأنه في متناول «كورونا»، وليس هناك شك أيضاً في أن هذه النفسية لن تصمد وسوف تتهاوى إلى مستوياتها الدنيا، إذا ما اكتشف صاحبها أن هذا هو اعتقاد مدير منظمة الصحة العالمية، وأن هذه هي كلماته، وأن هذه هي معانيه الصادمة التي تنطوي عليها الكلمات!
لم يعرف العالم من قبل وباءً عاش معه من دون نهاية مهما طال أمده، ولم يسمع العالم عن وباء من النوع الذي يبشّرنا به أدهانوم، وهو يتكلم عن «كورونا»، وعن عدم وجود نهاية له في الأفق، وعن آثار محسوسة موجودة معنا لعشرات السنين، ولا سمعنا عن وباء لا لقاح له ولا علاج!
ولكنّ أدهانوم سمع وعرف وجاء يبشّر العالم، وقد انفعل فنان الكاريكاتير في صحيفة «المصري اليوم» بما يتابعه ويطالعه معنا في هذا الشأن، فلم يجد حلاً سوى أن يرسم كاريكاتيراً في الصحيفة يصور فيه مدير المنظمة العالمية على أنه الشخص الأنسب للقيام بدور أي شخص نكدي في أي عمل فني درامي!
لا يبدو الدكتور أدهانوم في حاجة إلى شيء قدر حاجته إلى أن يغيّر خطابه مع الناس حول الجائحة، وأن يتحدث بعقلية الطبيب الذي يبشر المريض بدلاً من أن يزرع اليأس في صدره، وأن يراعي أن لمئات الملايين ممن يعيشون في قلق حول العالم مزاجاً نفسياً يتأثر بما يتلقاه من أنباء وأخبار، فيصفو ويعلو إذا سمع ما يطمئنه، ويتعكر ويسوء إذا جاءه ما لا يسعده!
يحتاج الدكتور أدهانوم إلى أن يدرك أننا بقينا تحت سيف الوباء بما يكفي، وأننا قد مللنا هذا البقاء وزيادة، وأنه مدعوٌّ قبل سواه بحكم منصبه الذي يشغله، إلى أن ينحّي السياسة التي تحرّكه جانباً، فلا يتذكر طول الوقت سوى أنه طبيب، وأن العالم ينتظر منه ما يُطمئّن ويخفف، وليس ما يؤلم ويقلق!
على هذه المنظمة الكبيرة التي تتخذ من جنيف مقراً لها، أن تأخذ بيد العالم من هذا المأزق الذي يجاهد ليفارقه، لا أن تغرقه في المزيد من الوساوس والشكوك، وعليها أن تبعث إليه من الرسائل الضمنية ما يعزز قدرته على الخروج من زمن الوباء، لا أن ترسّخ في يقينه أنه عاجز عن الانتصار في معركته التي يخوضها متمسكاً بالحياة!