د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

السد الإثيوبي ومعضلة التفاوض على «لا شيء»

ساعات محدودة فصلت بين بيان مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي وبيان وزارة الخارجية الإثيوبية؛ الأول حدد هدف جولة المفاوضات الجديدة حول السد الإثيوبي بالتوصل إلى اتفاق ملزم حول الملء والتشغيل يجب - حسب ما ورد في البيان - أن يتضمن اتفاقاً شاملاً بشأن المشروعات المستقبلية على نهر النيل. أما الثاني فقد حدد هدف المفاوضات في التوصل إلى اتفاق غير مُلزم لا يكبل التحركات الإثيوبية، ولا يقيد سيادتها، ويمكن الاسترشاد به إذا لزم الأمر. المسألة هنا ليست فروقاً في الصياغات اللغوية، بل في جوهر التحرك الأفريقي، برئاسة دولة جنوب أفريقيا، الذي أصبح لا قيمة له ما دامت دولة المقر تضرب عرض الحائط بما تم الاتفاق عليه في القمة المصغرة، يوم الثلاثاء 21 يوليو (تموز) الحالي، التي حضرها رؤساء دول وحكومات الدول المعنية بالسد الإثيوبي. فإذا كانت الوثيقة التي سيتم التوصل إليها، في حال حدث ذلك، برعاية أفريقية ومشاركة مراقبين دوليين، غير مُلزمة، ومجرد أفكار استرشادية لا قوة قانونية لها، تطيح بها إثيوبيا حين تشاء وكيف تشاء، سيطرح التساؤل نفسه، وبقوة: إذن، لماذا يتفاوض المفاوضون، ويرهقون أنفسهم في تقديم الحجج، ووضع الصياغات، وتقرير اتفاقات أو تفاهمات، وهم يعلمون يقيناً أنها بلا فائدة، ولن تكون سوى ورقة لا قيمة لها؟
السؤال في حد ذاته مشروع، وفي جوهره معضلة سياسية وحياتية كبرى تواجه تحديداً كلاً من مصر والسودان، بصفتهما الطرفيْن المتضرريْن مباشرة من الموقف الإثيوبي المتحول سياسياً وتفاوضياً، ولكنه الناجح في استهلاك الزمن وتغيير الواقع على الأرض، والذي يدور حول هدف واحد يتلخص في السيطرة على كل قطرة مياه لنهر النيل، بل وفرض مشروعية حقوق مستقبلية ترفع من قدرة إثيوبيا على السيطرة الكاملة على فروع الأنهار التي يتجه بعضها إلى مصر والسودان. وإلى حد ما تواجه دولة جنوب أفريقيا المأزق ذاته، استناداً إلى فرضية كونها راعية المفاوضات بحيادية، الحريصة على الوصول بها إلى نهاية مقبولة من الجميع.
الضرر الذي تتعرض له دولتا المصب ضرر غير مؤقت، بل دائم، ويزداد خطورة في ضوء الاستراتيجية الإثيوبية لبناء السدود على نهر النيل، المقرر لها حتى الآن ثلاثة سدود جديدة، وهي مندايا وكارادوبى ومابل، بهدف تخفيف حدة اندفاع المياه إلى السد الحدودي الكبير، وتوليد كهرباء إضافية، وإقامة بحيرات فرعية خلف كل منها، وتخفيف كميات الطمي التي ستصل إلى السد الحدودي، المقدرة بنحو 140 مليون طن، كفيلة بردم السد خلال 50 عاماً، وستؤدي إلى خفض كميات الكهرباء تدريجياً، في حال عدم السيطرة على اندفاع المياه.
الحقائق السابقة تغير تماماً من طبيعة القضية المطروحة للتفاوض؛ يظل هدف الاتفاق على آلية تشغيل السد الحدودي وملئه في سنوات الفيضان العادية، وفي سنوات الجفاف، وآلية أخرى لفض المنازعات المحتمل بروزها لاحقاً، أمراً جوهرياً، لكنه في حال قيام السدود الثلاثة المستقبلية يصبح جوهر القضية مختلفاً، فهذه السدود سوف تستهلك جزءاً آخر من المياه، وتحجز كميات أخرى، في صورة بحيرات جديدة، مهما كان حجمها محدوداً، وستقلل من الكميات الواصلة للسد الحدودي طوال العام. وبالتالي، فإن آلية تشغيل السد الحدودي لن تكون كافية لمعالجة المخاوف والهواجس لكل من مصر والسودان. كما أنها لن تحمي الحقوق المائية للبلدين، أياً كان الاتفاق مُلزماً أو استرشادياً.
هذه التداعيات المُحققة علمياً تجد من يرد عليها بأن السد الحدودي، حال اكتماله، هدفه توليد الكهرباء، وبالتالي سيكون هناك تصريف للمياه التي ستذهب حتماً إلى كل من السودان ومصر، وبالتالي فلا مخاوف من انخفاض الكمية لدولتي المصب. وهو منطق تطرحه جهات إثيوبية من منطلق أن لا نية لأديس أبابا للإضرار بمصر والسودان. وهو منطق مردود عليه، ولا ينفي الحاجة إلى تنظيم تلك التدفقات، بما لا يضر فعلاً بدولتي المصب، وبالتالي تأكيد منطق عدم نية إلحاق الضرر بالآخرين، وهو المنطق الذي يتصادم تماماً مع تصريحات وزيري الخارجية والري الإثيوبيين حول أن حجز المياه خلف سد الحدود الذي تم بخداع منقطع النظير، يجعل من النيل بحيرة إثيوبية، وليس نهراً دولياً.
مجمل الأمر يصب في تغيير صيغة الاتفاق المفترض أن يكون محلاً للتفاوض، ويذهب به - حسب بعض الخبراء - إلى أن المطلوب هو الاتفاق حول الحصص التي يجب أن تذهب إلى مصر والسودان، مقابل أن تقوم إثيوبيا بما تريد من مشروعات على أعالي النهر، سواء بالإخطار لدولتي المصب أو من دون إخطار، وهو ما تحدث به مبدئياً السودان، في لقاءات ثنائية مع إثيوبيا، وقدم به اقتراحاً عده كافياً لكى تتجاوب أديس أبابا مع مبدأ الاتفاق الملزم. وهنا، يطرح أحد الخبراء المصريين فكرة أن تلتزم إثيوبيا بتدفق لا يقل عن 40 مليار متر مكعب سنوياً في الفيضان المُعتاد، ولا يقل عن 35 مليار متر مكعب في سنوات الجفاف، أياً كانت السدود التي يتم بناؤها لاحقاً.
وكما سبق القول، فقد أشار بيان مكتب رئاسة الاتحاد الأفريقي إلى وجوب أن يتضمن الاتفاق الملزم لملء السد اتفاقاً شاملاً للمشروعات المستقبلية للنيل، وفي تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بعد القمة المصغرة، ما يؤكد أنه يدعم هذه الرؤية، ولكن من دون إلزام قانوني. بمعنى آخر، أن تقبل مصر والسودان إطلاق يد إثيوبيا في إقامة أي سدود، ومنحها الشرعية الدولية والإقليمية، مقابل تعهد شفهي إثيوبي بالالتزام بأي قواعد استرشادية. ولا أظن أن أحداً، في مصر على الأقل، ولنترك السودان يحدد موقفه كما يريد، قد يقبل بهذه الصيغة التي تعني القبول بالعطش وبوار الأرض وخراب البلاد، بل والرضا به.
المصادر الرسمية المصرية تتابع من قرب الموقف الإثيوبي، وتراجعاته المستمرة. ورغم التزامها الحل التفاوضي برعاية أفريقية حتى اللحظة، فإن بديل اللجوء إلى مجلس الأمن مرة أخرى يُطرح بقوة، باعتبار التصرفات الأحادية لإثيوبيا تضر بالأمن الإقليمي، وتفتح مجالاً لصراعات مؤكدة تضر بالجميع، ومن ورائه بديل اللجوء إلى المحكمة الدولية لبيان مدى مشروعية التصرفات الإثيوبية، وبالتالي تتحدد عليه الخطوة التالية.
الإصرار المصري على الحلول التفاوضية مرتبط بقناعات أن لكل قضية إطارها الخاص بها. وفي حالة السد الإثيوبي، فهناك اعتبارات تخص العلاقة مع أفريقيا ككل، وفي الآن ذاته تخص الحق في الوجود، وإذا لم تراعِ القارة حق مصر في الوجود، يصبح الواجب في حماية الوجود مفتوحاً على كل الإجراءات التي تدخل في باب الدفاع المشروع عن النفس. وتحديد تلك اللحظة مرهون بدوره بمدى نجاح الاتحاد الأفريقي في الالتزام بالتوصل إلى اتفاق ملزم، سواء خص ملء السد وتشغيله فقط، أو شمل أيضاً مشروعات إثيوبيا المستقبلية.