يندُر أن تجد اسم المستشار عقيلة صالح في المواقف الباهتة، إذ إنه يظهر عادة - كما يراه أنصاره - في الظروف شديدة الخصوصية التي تحتاج إلى حسم، غير آبهٍ بما مضى من خسائر، كل ما يهمه فقط استعادة سفينة الليبيين التي جرفتها «تيارات الكراهية»، وتقاذفتها أنواء الحرب.
صالح، المنتمي لمدينة القبة، بشمال شرقي ليبيا، ظل شخصية مغمورة، إلى أن جاءت به «انتفاضة 17 فبراير (شباط)» عام 2011 عضواً في اللجنة القضائية التي شكلها «المجلس الانتقالي المؤقت» للتحقيق في قضايا فساد عهد الرئيس الراحل معمر القذافي، واندمج بعد ذلك في انتخابات برلمانية، ليصبح رئيساً لأول مجلس نواب منتخب.
وقُبيل أن تطوي السنوات التسع دفاترها، صار القاضي ابن قبيلة العبيدات ورهانها الذي ارتبط اسمه بغالبية المنعطفات السياسية التي مرت على ليبيا، رقماً مهماً. وبات يعوَّل عليه راهناً داخلياً وخارجياً لحل معضلة بلده، ولعب دور أكبر في قادم الأيام، مُعَزَّزاً بما يطرحه من مبادرات، وأفكار للحل، بكيفية انتزاعها من قبضة المجهول.
عقيلة صالح، القاضي السبعيني، يلخص رؤيته إزاء حل الأزمة الليبية الراهنة بـ«ضرورة إسقاط اتفاق الصخيرات، وطرد الميليشيات المسلحة، ووقف التدخلات الخارجية، والبدء في انتخاب مجلس رئاسي جديد على قواعد جديدة».
خبرة قضائية
يمتلك عقيلة صالح عيسى العبيدي، المولود في منتصف أربعينات القرن الماضي، خبرة قضائية قاربت نصف قرن، بموازاة سنوات انخراطه في السياسة. وهي - وإن رآها البعض محدودة - تعمقت على أثر حراك عمَّ مدن ليبيا، وكانت القبة واحدة منها.
لقد نضجت شخصية عقيلة صالح الذي تدرَّج عقب حصوله على ليسانس القانون العام من جامعة بنغازي عام 1970، بالعمل في وزارة العدل والسلك القضائي، قبل أن يصبح عام 1999 رئيساً لفرع إدارة التفتيش القضائي في محكمة استئناف درنة.
في تلك الأثناء، كان الاتجاه للعمل السياسي عقب رحيل القذافي محموماً، بعد 40 سنة وأكثر من تجريم العمل به. ورغم تأكيد صالح أنه لا ينتمي إلى أي تيار سياسي، فإنه اتجه هو وغيره لخوض أول انتخابات برلمانية تشهدها ليبيا، بعد انقضاء ولاية «المؤتمر الوطني العام» الذي كان يترأسه نوري أبو سهمين، بهيمنة كبيرة للإسلاميين.
ونجح عقيلة صالح في الانتخابات البرلمانية، وأصبح نائباً عن مدينة القبة؛ ليصار بعدها إلى انتخابه رئيساً للمجلس في اقتراع داخلي، بعد فوزه على منافسه الدكتور أبو بكر بعيرة، النائب عن مدينة بنغازي.
شريك الحرب
ومع انعقاد أولى جلسات مجلس النواب الجديد في مدينة طبرق (1500 كيلومتر شرق ليبيا) كانت أعمال العنف تتصاعد بين الميليشيات المتناحرة بالعاصمة وفي بنغازي، في ظل خلافات بين التيارين الإسلامي والوطني، بينما كانت قد انطلقت «عملية الكرامة» بقيادة (اللواء) خليفة حفتر، في السادس عشر من مايو (أيار) 2014؛ للتصدي لما يسمى «مجلس شورى ثوار بنغازي»، وتقوده جماعة «أنصار الشريعة»، المصنفة كمنظمة إرهابية. حينئذٍ بدأ صالح، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي يمتلك صلاحيات رئيس البلاد، توفير الدعم السياسي للعملية التي استهدفت «تطهير» شرق ليبيا من الجماعات الإرهابية. وامتداداً لذلك أعاد البرلمان حفتر إلى الخدمة العسكرية مع 129 ضابطاً متقاعداً آخرين، قبل أن يؤدي في التاسع من مارس (آذار) من عام 2015 اليمين قائداً عاماً لـ«الجيش الوطني الليبي» بعدما منحه البرلمان رتبة إضافية، ورقَّاه إلى «فريق أول».
وبعد أقل من عام ونصف عام، رقى رئيس مجلس البرلمان حفتر إلى رتبة مشير، غداة سيطرة القوات التي يقودها على موانئ الهلال النفطي (رأس لانوف والسدرة والزويتينة) في المنطقة الواقعة بين بنغازي وسرت، ونجاحها في دحر قوات إبراهيم الجضران من دون قتال.
هنا بدأ نجم حفتر يبزغ، وبجواره صالح الذي منح الشرعية لقواته (الجيش الوطني) للدفاع عن موارد البلاد النفطية، وصد تغول الجماعات الأصولية التي رأت في ليبيا معقلاً لنشاطها بعد تفككها أمنياً.
وظل صالح ومجلسه سنداً لـ«عملية الكرامة» في حروبها ضد المجموعات المسلحة و«الجماعات الإرهابية» في مدن الشرق الليبي، إلى أن أعلن حفتر «تحريرها» مطلع يوليو (تموز) عام 2017، ومن ثم تحرك باتجاه مدينة درنة، ومنها إلى المعركة الآنية التي أمر بشنها على العاصمة، تحت نداء «لبيك طرابلس» لـ«تحريرها» - وفق قوله - من «الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة».
على مدار سبع سنوات من حروب «الجيش الوطني»، ظل رئيس مجلس النواب يرقُب الموقف، ويزن الأمور، بصفته القائد الأعلى الشريك في الحرب، والرافض للقرارات غير المحسوبة التي قد تنتهي بهزيمة. وهو يستغرب ويتساءل بلسان الحال: كيف لقوات أوشكت على إنهاء مهماتها أن تتقهقر، لتصير أبعد مما كانت عليه بستين كيلومتراً أو يزيد؟
هنا، وبحكمة القاضي الأريب، التجأ سريعاً إلى التفاوض، غير آبهٍ بما مضى من خسائر، مهموماً - كما يراه مؤيدوه - بإنقاذ ليبيا من «مخاطر التقسيم»، وعاملاً على «لم شملها». فهو يرى أن أزمتها يمكن تداركها على طاولة السياسة، بعيداً عن تدمير ما تبقى منها في ميدان الحرب.
برلمان مصر
مبكراً، وأمام جمود عسكري لم يمنع سفك مزيد من الدماء، رسم عقيلة صالح لنفسه خطاً موازياً لـ«حرب طرابلس»، سار فيه بهدوء. فالرجل - مع أنه كان يؤيد حتميتها - لم يكن راضياً عن مجرياتها تمام الرضى؛ خصوصاً مع انفتاح ميادينها على أطراف خارجية، وتحولها إلى حرب بالوكالة. لذا سارع إلى القاهرة في مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، وهناك، بعدما أطلع المسؤولين المصريين على طبيعة الأمور المتكلسة، اعتلى منصة مجلس النواب مجاوراً رئيسه الدكتور علي عبد العال، وقال إن ليبيا قد تضطر إلى دعوة القوات المسلحة المصرية للتدخل إذا حصل تدخل أجنبي.
قبل ذلك بقرابة 40 يوماً، كانت أنقرة قد وقَّعت مع «المجلس الرئاسي» مذكرتي تفاهم بشأن الحدود البحرية، والتعاون الأمني، لتدخل بثقلها العسكري لتقلب موازين الحرب لحساب شريكتها المستقبلية: «حكومة الوفاق»، محاولةً ضرب رصيد «الجيش الوطني» الذي سبق وأعلن غير مرة أنه بات على مقربة من قلب العاصمة.
هنا استشعر صالح خطراً جديداً؛ خصوصاً مع تدفق أفواج المقاتلين الأجانب على طرابلس، فاتجه إلى طرح مبادرة أولية من 12 بنداً في 20 فبراير الماضي، شكَّلت في مجملها «ثوابت وطنية». وهي تتمحور حول تفكيك الميليشيات المسلحة، وإخراج المرتزقة السوريين من غرب ليبيا؛ إلا أن ما ذهب إليه صالح لم يجد صدى لدى سلطات طرابلس، ومضت الحرب على طرابلس شهوراً جديدة.
ما قبل التفويض
الحاصل الآن أن ما كان يجري في العلن اتضح أنه مغاير تماماً لما كان يحدث في الكواليس، فصالح الذي يُنظَر إليه على أنه شريك المرحلة وحليف حفتر الوثيق، اعترته حالة من التململ والضيق، (عبَّر عنها لاحقاً لمقربيه) عندما شعر بأن الأمور تكاد تفلت من قبضة «المشير». وهكذا، بدأ في اتخاذ خطوات استباقية لوقف استنزاف الجهود، وقطع الطريق على كارثة قد تتحقق ما لم يمكن تداركها. في هذه اللحظة أدرك صالح - المستند إلى دعم قبائلي عريض - ضرورة استعادة المركب من عرض البحر، بعدما تقاذفتها «أنواء الحرب».
وبالفعل، مع حلول شهر رمضان، تحدث صالح في كلمة مصوَّرة، عن طرح مبادرة سياسية جديدة من ثماني نقاط، تتضمن بعض بنود مبادرته السابقة، وتهدف إلى إعادة انتخاب «المجلس الرئاسي» المنبثق عن «اتفاق الصخيرات»، بما يمثل أقاليم ليبيا الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان)، وإعادة كتابة الدستور. وفيها، لأول مرة، يقول صالح إنه مستعد «لتقديم المشورة المخلصة والصادقة مع الشخصيات الوطنية والنخب السياسية، للوصول إلى العناصر القادرة على تجاوز وحل مشكلات وقضايا هذا الوطن». ولكن، لم تمضِ ساعات حتى حل المساء، وجاء معه بحفتر ليطلب من الليبيين تفويضاً للمؤسسة التي يرونها أهلاً لقيادة المرحلة المقبلة وإدارة شؤون البلاد، وهي الخطوة التي بدأ من عندها «شريكا الحرب» في السير بخطين متقاطعين.
وتوالت التكهنات حول وجود خلافات، وتصاعدت الأنباء عن انقسامات داخل البرلمان بين فريقي حفتر وصالح. وعزز من ذلك صعود أسهم الأخير على المستوى الإقليمي والدولي، وذهاب البعض إلى القول إنه هو البديل القادم المؤهل للعب دور توافقي بين أبناء شعبه؛ لكن «خصومه» يردون متندِّرين: «أي مستقبل سياسي يُنتظر من طاعن في السن، ساهم في تدمير العاصمة»؟!
حديث القبيلة
على الرغم من ذلك، لم ينسَ عقيلة صالح أنه القائد الأعلى، وأنه هو من رقَّى حفتر وصعَّده إلى رتبة مشير، وذلك عندما جلس أرضاً وسط حشد كبير من مشايخ وأعيان العبيدات، قبيلته الكبيرة، بمدينة القبة، يُطلعهم على خطورة الأوضاع في العاصمة، وأن الأمور «على شفير الهاوية»...
في تلك المرحلة كانت الأطراف الدولية تطالب حفتر بالقبول بـ«هدنة إنسانية»، بينما كانت إمداداته العسكرية المتجهة إلى ترهونة (90 كيلومتراً جنوب شرقي طرابلس) تتعرض للقصف على أيدي قوات «حكومة الوفاق».
غير أن صالح قرأ المتغيرات الطارئة سريعاً، وكشف جانباً من خفايا ما يجري على الأرض، عبر شريط فيديو «مسرب»، قال فيه إن «الروس طلبوا من (خليفة) الموافقة على هدنة إنسانية؛ لأن الأوضاع على الأرض صعبة، ودخول العاصمة شبه مستحيل».
وحمل شريط الفيديو الذي يرى «خبثاء» أن مقربين من رئيس البرلمان سمحوا بتسريبه، إشارات عدة، أبرزها: التجاء صالح إلى قبيلته والفضفضة مع مشايخها بكل أريحية عن سياسات عليا، وأسرار حربية تخص مرحلة فارقة من تاريخ ليبيا، فضلاً عن تهكمه على طلب حفتر التفويض، بقوله: «كان يجب طلب التفويض في شيء يملكه»!
كل ذلك عزز من صدقية أقاويل فك الارتباط بين الرجلين. وبالتالي، لم تفلح زيارة أبو القاسم - نجل حفتر - إلى مدينة القبة للقاء صالح، في إزالة حالة الاحتقان التي اعترت العلاقة مع أبيه.
امتداداً لذلك، أظهر صالح نشاطاً غير معهود، فاتجه إلى تسويق مبادرته داخلياً بلقاء عديد من ممثلي القبائل، فضلاً عن التجمعات الشبابية التي جالسها بشرق البلاد، قبل أن ينتقل بها خارجياً، بالتواصل هاتفياً مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وزيارة للقاهرة مرتين في فترة وجيزة.
ومع ظهور صالح مجاوراً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مطلع يونيو (حزيران) الجاري، خلال «إعلان القاهرة»، قرأ ليبيون هذه التراتبية في المشهد على أن مصر قد ترى في صالح المفاوض الأول لشرق البلاد؛ وخصوصاً اعتماد الإعلان على جل بنود مبادرته السياسية، غير أن ثمة مَن يرى أن ذلك جاء وفق بروتوكول يقتضي أن رئيس البرلمان القائد الأعلى يجاور رئيس الجمهورية في هذه الحالة.
ويمضي صالح الذي يحرص على ارتداء «الشنة» بلونيها الأحمر والأسود، (غطاء الرأس التقليدي) في تسويق «إعلان القاهرة» خلال لقائه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، علَّه يتمكن من «كبح» آلة الحرب. ثم إنه لا يتردد في القول إن بلاده قد تطلب رسمياً من مصر التدخل بقوات عسكرية، إذا اقتضت ذلك ضرورات الحفاظ على الأمن القومي الليبي والمصري معاً، ودفاعاً عن النفس حال تجاوزت «الميليشيات المسلحة» و«الجماعات الإرهابية» ما وصفه الرئيس السيسي بـ«الخط الأحمر» ورسمه بمدينتي سرت والجفرة.