المريخ على موعد مع «الأخوين رايت»

{ناسا} تخطط لأول طائرة هليكوبتر في أجواء الكوكب الأحمر

مديرة مشروع «مروحيات المريخ» ميمي أونغ داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» مع فريق العمل (نيويورك تايمز)
مديرة مشروع «مروحيات المريخ» ميمي أونغ داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» مع فريق العمل (نيويورك تايمز)
TT

المريخ على موعد مع «الأخوين رايت»

مديرة مشروع «مروحيات المريخ» ميمي أونغ داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» مع فريق العمل (نيويورك تايمز)
مديرة مشروع «مروحيات المريخ» ميمي أونغ داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» مع فريق العمل (نيويورك تايمز)

تستعد وكالة «ناسا» للانطلاق جواً على سطح كوكب آخر. في إطار مهمتها التالية المتجهة إلى المريخ، التي من المقرر أن تنطلق هذا الصيف، ستحاول وكالة الفضاء فعل أمر لم يسبق إنجازه من قبل قط: الدفع بطائرة مروحية للتحليق في الغلاف الجوي للمريخ.
وحال نجاح هذه المحاولة، فإن المروحية الصغيرة التي تحمل اسم «إنجنيويتي» ستفتح سبيلاً جديداً إلى المستقبل أمام المستكشفين الآليين المستقبليين لإلقاء نظرة من الجو على المريخ وكواكب أخرى داخل النظام الشمسي.
وتبدو هذه اللحظة شبيهة للغاية باللحظة التاريخية الشهيرة التي شهدت نجاح تجربة الأخوين رايت في التحليق، لكن على سطح كوكب آخر، حسبما ذكرت ميمي أونغ، مديرة مشروع «مروحيات المريخ» داخل مختبر الدفع النفاث التابع لـ«ناسا» على مدار السنوات الست الماضية. ولا يعتبر التحليق في فضاء المريخ بالأمر الهين، ذلك أنه لا يوجد قدر كافٍ من الهواء هناك كي تدفع المروحيات ضده وتبدأ في الارتفاع. على سطح الكوكب، تبلغ كثافة الغلاف الجوي للكوكب 1-100 فقط من غلاف الأرض. ورغم أن الجاذبية الأقل - التي تعادل ثلث الجاذبية التي يشعر بها المرء على الأرض - تعين على البقاء محلقاً في الهواء، فإن الانطلاق من على سطح المريخ يعادل الطيران على ارتفاع 100.000 قدم على الأرض. ولم يسبق لأي مروحية على سطح الأرض التحليق على مثل هذا الارتفاع، ويبلغ هذا أكثر عن ضعف الارتفاع الذي تحلق عنده في العادة الطائرات.
ومن المقرر أن تنتقل المروحية إلى المريخ بالاعتماد على «بيرسيفيرانس»، التي ستصبح الطوافة الروبوتية الخامسة التي ترسلها «ناسا» هناك. ومن المقرر أن تنطلق المهمة في 20 يوليو (تموز)، في واحدة من 3 مهام تستهدف المريخ هذا العام. وخلال مؤتمر صحافي عقد الأسبوع الماضي لمراجعة مهمة «بيرسيفيرانس»، أكد جيم بيردنستاين، المسؤول الإداري بـ«ناسا»، في حديثه عن «إنجنيويتي»، أنه: «سأقول لكم أمراً، أكثر ما أشعر نحوه بالإثارة باعتباري مسؤولا إداريا في (ناسا) الاستعداد لرؤية مروحية تحلق في سماء عالم آخر».
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه حتى عام 1997، كانت جميع المركبات التي أرسلت إلى سطح المريخ مركبات إنزال ثابتة، لكن في 1997 تضمنت مهمة «باثفايندر» شيئا كان ثورياً في تاريخ «ناسا»: روبوت مزود بعجلات. وكانت تلك الطوافة، التي حملت اسم «سوجورنر»، في حجم خزانة ملفات صغيرة تقريباً. وأعقب نجاح هذه المهمة إرسال طوافتين كل واحدة منهما في حجم عربة ملعب غولف، «سبيريت» و«أوبورتيونيتي»، واللتين هبطتا على سطح المريخ في 2004. وفي 2012، هبطت طوافة «كيوريوسيتي» على المريخ وكانت بحجم سيارة تقريباً. من جهتها، تعتبر «إنجنيويتي» في جوهرها المكافئ الجوي لـ«سوجورنر»، بمعنى أنها تشكل استعراضا لتكنولوجيا جديدة يمكن استخدامها بتوسع أكبر خلال مهام تالية. ويكافئ حجم هيكل «إنجنيويتي» حجم كرة لينة صغيرة تشبه كرة البيسبول، وتخرج منها أربعة أرجل طويلة ورفيعة. وتوجد مجموعتان من الشفرات، يبلغ طول كل منها حوالي 4 أقدام من الطرف إلى الطرف، تدوران في اتجاهين مختلفين. وتبلغ زنة المركبة 4 باوند فقط ويبلغ ارتفاعها حوالي 1.5 قدم.
جدير بالذكر أن بوب بالارام، المهندس الأول المسؤول عن المروحية، قد بدأ العمل مع بعض الزملاء على تنفيذ الفكرة في التسعينيات. وقال عن ذلك: «لم نحقق شيئاً يذكر، في واقع الأمر، وإنما أجرينا بعض الاختبارات البسيطة. وبعد ذلك، جرى تنحية الفكرة برمتها جانباً حتى ست أو سبع سنوات ماضية».
وقال إن تشارلز إلايتشي، الذي كان يتقلد آنذاك منصب مدير «مختبر الدفع النفاث»، أصبح مهتماً بالفكرة ووفر المال اللازم لإجراء مزيد من الدراسات بهذا الشأن. وقال: «كان لذلك الفضل في دفعنا نحو العمل». وبطبيعة الحال، شكل السعي وراء إنجاز أمر لم يسبق فعله من قبل تحدياً هندسياً راق لأونغ، التي تولت منصب مدير المشروع منذ منتصف عام 2014.
وقالت أونغ، التي كانت نائب مدير قسم الأنظمة الذاتية داخل «مختبر الدفاع النفاث» قبل انضمامها إلى مشروع المريخ: «منذ حوالي 20 عاماً، لم يكن هذا الأمر يبدو ممكناً بسبب اعتبارات رياضية».
إلا أن عدداً من التطورات التكنولوجية، مثل تصغير الإلكترونيات وإنتاج بطاريات قادرة على تخزين قدر أكبر من الطاقة ومواد من الممكن تشكيلها في صورة شفرات خفيفة الوزن، جعلت أخيراً من الممكن تحويل حلم بناء مركبات قادرة على الطيران على سطح المريخ إلى إمكانية تكنولوجية، حسبما شرحت أونغ.
إلا أن تحول الإمكانية إلى مروحية عاملة بالفعل استغرق سنوات من التجربة والخطأ.
وبحلول عام 2014، كان المهندسون قد نجحوا في بناء نموذج أولي صغير. ووضعت المروحية الصغيرة داخل غرفة جرى سحب معظم الهواء منها، في محاكاة إلى كثافة الغلاف الجوي المريخي. ونظراً لأنهم لم يكونوا قد أنجزوا حينها الـ«سوفت وير» اللازم كي تتمكن المروحية من الطيران بذاتها، حاول عضو من الفريق توجيه حركتها من خلال عصا تحكم.
ومع بدء دوران الشفرات، ارتفعت المروحية عن الأرض، وسرعان ما خرجت عن السيطرة. وبذلك، تحققت مسألة الارتفاع عن السطح لكن دون سيطرة. وعن ذلك، شرح هارفارد غريب، المهندس الذي قاد العمل بمجال الديناميكيات الهوائية وتحقيق طيران خاضع للسيطرة: «في ذلك الوقت، تحقق لنا ما كنا نسعى خلفه، وهو التأكد من القدرة على الانطلاق والارتفاع من على سطح الأرض. ولهذا، فإنه من تلك الزاوية كانت التجربة ناجحة، لكن كان من الواضح أنه لا تزال هناك حاجة لبذل كثير من المجهود لاستيعاب كيف يتصرف ذلك الشيء».
وقال بالارام وغريب إن واحدة من المشكلات القائمة كانت أن الشفرات كانت ترتد صعوداً وهبوطاً مع دورانها من 2.000 إلى 3.000 لفة بالدقيقة. على الأرض، يؤدي ضغط الهواء في مواجهة الشفرات إلى تقليص الارتداد، لكن في الغلاف الجزي المريخي الهزيل، تخلق هذه الارتدادات حالة من عدم الاستقرار تجعل من الصعب السيطرة على حركة المروحية.
واتضح أن الحل جعل الشفرات أكثر صلابة بشكل طفيف، لكن هذا أضاف إليها مزيداً من الوزن. في مايو (أيار) 2016، كان النموذج الأولي التالي جاهزاً. وداخل الغرفة ذاتها التي تحاكي الغلاف الجوي على سطح المريخ، ارتفعت المروحية، ثم حلقت بثبات وهبطت بسلاسة. وللمرة الأولى، طار نموذج أولي لمروحية تحت السيطرة في ظل ظروف تحاكي الغلاف الجوي للمريخ، وإن ظلت مرتبطة بمصدر خارجي للطاقة وجهاز كومبيوتر. وأصبح التصميم الكامل جاهزاً في يناير (كانون الثاني) 2018، بما في ذلك بطاريات ومعالج «كوالكوم سنابدراغون» يكافئ تماماً ما يوجد داخل الهواتف المحمولة، وأنظمة اتصالات ومجسات. ومن أجل محاكاة قوة جاذبية المريخ، تولت بكرة سحب المروحية لأعلى للعمل كثقل موازن لجاذبية الأرض. وجرى تقليص كثافة الهواء في الغرفة من جديد، لكن هذه المرة بدلاً عن ترك بعض من هواء الأرض، جرى ضخ بعض من ثاني أكسيد الكربون، المكون الأساسي لهواء المريخ. وبالفعل، ارتفعت المروحية وحلقت.
وبعد نصف عام، أعطت «ناسا» الضوء الأخضر لإضافة المروحية إلى مهمة الطوافة التالية التي ستطلقها الوكالة إلى المريخ، «بيرسيفيرانس».
واليوم، جرى إلحاق «إنجنيويتي» بقلب «بيرسيفيرانس»، التي تخوض الاستعدادات الأخيرة للانطلاق من كيب كانافيرال في فلوريدا.
وفي تلك الأثناء، تعكف أونغ والفريق المعاون لها على مراجعة ما سيفعلونه بمجرد هبوط «إنجنيويتي» على سطح المريخ. ومع غلق الجزء الأكبر من مختبر الدفع النفاث بسبب تفشي وباء «كورونا» المستجد، جرى إنجاز كل هذه الأعمال عبر مؤتمرات عن بعد، مع عمل أعضاء الفريق من المنزل.
وبعد حوالي شهرين من هبوط «بيرسيفيرانس» على المريخ في فبراير (شباط)، ستبدأ اختبارات «إنجنيويتي». وبعد إيجاد الطوافة مساحة مسطحة مناسبة، ستسقط المروحية على الأرض، ثم تتحرك لمسافة 100 ياردة على الأقل. وقالت أونغ: «لن تعود المروحية أبداً إلى الطوافة».
وعلى مدار 30 يوماً، ستنفذ المروحية ثلاثة رحلات جوية، لكنها ستقضي جزءاً كبيراً من الوقت على الأرض في انتظار إعادة شحن بطارياتها باستخدام ألواح شمسية. وستكون الطلعة الجوية الأولى عبارة عن الارتفاع لبضعة أقدام والتحليق لمدة تصل إلى 30 ثانية، ثم الهبوط. أما الطلعات الجوية التالية فستكون أطول وأعلى ولمسافات أبعد. وفي الرحلة الجوية الخامسة، إذا سار كل شيء على ما يرام، سترتفع المروحية إلى 15 قدماً تقريباً وتطير لمسافة 500 قدم تقريباً، ثم تعود إلى نقطة البداية. وتحمل المروحية زوج من الكاميرات، واحدة بالأبيض والأسود وجهها متجه إلى الأسفل لتحديد موقعها، والثانية بالألوان لنقل صور من المشهد العام على سطح المريخ. وستستغرق تلك الرحلة 90 ثانية. وبمجرد إنجازها لطلعاتها، ستترك «إنجنيويتي» في آخر موقع هبوط لها، بينما تنطلق «بيرسيفيرانس» لاستكمال باقي مهمتها.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

التلسكوب «جيمس ويب» يلتقط «زِينة شجرة ميلاد مُعلَّقة في الكون»

يوميات الشرق ألوانُها كأنه العيد في الفضاء (ناسا)

التلسكوب «جيمس ويب» يلتقط «زِينة شجرة ميلاد مُعلَّقة في الكون»

التقط التلسكوب الفضائي «جيمس ويب» التابع لـ«ناسا»، للمرّة الأولى، صورة لِما بدت عليه مجرّتنا في الوقت الذي كانت تتشكَّل فيه؛ جعلت علماء الفضاء يشعرون بسعادة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ باميلا ميلروي نائبة مدير «ناسا» وبيل نيلسون مدير «ناسا» خلال مؤتمر صحافي في واشنطن (أ.ف.ب)

«ناسا» تعلن تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» للعودة إلى القمر

أعلن مدير إدارة الطيران والفضاء (ناسا)، بيل نيلسون، تأجيلات جديدة في برنامج «أرتميس» الذي يهدف إلى إعادة رواد الفضاء إلى القمر لأول مرة منذ 1972.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم رائدا الفضاء سونيتا ويليامز وباري ويلمور (أ.ب)

مرور 6 أشهر على رائدَي فضاء «ناسا» العالقين في الفضاء

مرّ ستة أشهر على رائدَي فضاء تابعين لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) عالقين في الفضاء، مع تبقي شهرين فقط قبل العودة إلى الأرض.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ شعار وكالة «ناسا» (رويترز)

ترمب يرشح جاريد إيزاكمان لرئاسة «ناسا»

رشح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب اليوم الأربعاء جاريد إيزاكمان لقيادة إدارة الطيران والفضاء (ناسا).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق صورة رادارية تكشف عن قاعدة عسكرية مهجورة في غرينلاند (ناسا)

إنجاز علمي جديد... «ناسا» ترصد «مدينة تحت الجليد» مدفونة في غرينلاند

كشفت صورة رادارية التقطها علماء «ناسا» أثناء تحليقهم فوق غرينلاند عن «مدينة» مهجورة من حقبة الحرب الباردة تحت الجليد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».